سيدخل الكرادلة كنيسة سيستين لانتخاب بابا جديد يوم الثلاثاء في طابور منتظم، ولكن هذا النظام يخفي وراءه انقسامًا بين أجنحة متنافسة ومراكز قوى ستقرر نتيجة صراعها من هو البابا المقبل.
يتمثل انقسام كرادلة الفاتيكان الرئيس في مواجهة الإصلاحيين من الكرادلة، الذين يريدون من البابا الجديد أن يتصدى لما يصفونه بالفساد المتفتشي في الفاتيكان، وانعدام الكفاءة والاستئثار بالسلطة، ورفض تبادل المعلومات مع أساقفة الكنيسة الكاثوليكية في أنحاء العالم.
لكن الأجنحة التي ستتواجه في "الخلوة السرية" يوم الثلاثاء لا تتوزّع على أساس جغرافي، بل إنها في الواقع تمخضت عن تحالفات مفاجئة بوقوف كرادلة إيطاليين وراء مرشح برازيلي، فيما يطالب الإصلاحيون بانتخاب كاردينال إيطالي.
عولمة وشلل وفضائح
ولاحظ مراقبون أن اصطفافات المجمع المقدس، الذي ينتخب البابا، يصعب عملية التنبؤ هذه المرة أكثر من المجمع السابق، بسبب ما شهدته الكنيسة من هزات وتغيرات خلال السنوات الثماني الماضية. ويتعيّن على الحبر الأعظم الجديد أن يوحّد كنيسة، تزداد عولمة وشللًا بتأثير الفضائح وسوء الإدارة، ولا تستطيع في عصر الإعلام المتحرك بسرعة أن تعمل بعد الآن بعيدًا عن الأضواء.
لا يوجد بين الكرادلة مرشح بارز لخلافة البابا بندكتوس السادس عشر، الذي فاجأ الكنيسة، وخضّها باستقالته في شباط/فبراير عن عمر يناهز 85 عامًا.
إزاء الضجة، التي أثارتها فضائح الاعتداءات الجنسية في الكنيسة الكاثوليكية، فإن كرادلة الفاتيكان يدركون أن الفشل سيكون مآلهم إذا دعموا واحدًا منهم، لذا أفادت مصادر بأنهم التفوا حول الكاردينال البرازيلي أوديلو بيدرو شيرر، أسقف ساو باولو.
الإنجيلية والعلمانية تحديان
والكاردينال شيرر ذو أصول ألمانية، ولكن انتخابه سيمنح الكنيسة الكاثوليكية أول بابا من أميركا اللاتينية، حيث يعيش نحو 40 في المئة من كاثوليك العالم، وتواجه الكنيسة هناك تحديات، سواء من الكنائس الإنجيلية الصاعدة أو من التوجه المتعاظم نحو العلمانية.
يقف الإصلاحيون بقيادة كرادلة أميركيين وبعض الكرادلة الأوروبيين الأقوياء، وراء الكاردينال الإيطالي أنجيلو سكولا، أسقف ميلانو، الذي يتمتع بشعبية واسعة. ولاحظ مراقبون أن الكاردينال سكولا، بوصفه إيطاليًا، حسن الإطلاع على الثقافة السائدة في بيروقراطية الفاتيكان من دون أن يكون جزءًا منها أو تابعًا لها.
الكرادلة مع بابا غير أوروبي
لكن العديد من الكرادلة يقولون إنهم يريدون بابا من خارج إيطاليا، بل حتى من خارج أوروبا، بهدف استنهاض كاثوليك العالم، البالغ عددهم 1.2 مليار كاثوليكي.
ويمكن أن يظهر مرشحون آخرون إلى المقدمة في ما أصبح سباقًا يتسم بتغير تحالفاته وأولوياته، كما أشار مسؤولون كنسيون وعلماء لاهوتيون وخبراء متخصصون بدراسة الكنيسة.
بانفتاح حلبة السباق على هذا النحو غير المسبوق، فإن البابا، الذي سيطلّ من الشرفة على ساحة القديس بطرس، قد يكون كاردينالًا من الأرجنتين أو كندا أو المجر أو المكسيك أو الفلبين أو حتى من الولايات المتحدة.
تجاوز ملف الاعتداءات الجنسية
أياً يكن البابا الآتي، سيتعيّن عليه إقناع الآخرين بأن قدراته اللاهوتية والإدارية ستمكن الكنيسة من تجاوز فضائح الاعتداءات الجنسية على أطفال وبنك الفاتيكان واستقالة كاردينال اعترف بتصرفه الجنسي غير اللائق مع قساوسته، وما أصبح معروفًا باسم فضيحة فاتيليكس، التي سُرقت فيها وثائق البابا الشخصية، ثم نُشرت لتميط اللثام عن الصراعات المريرة في مركز إدارة الكنيسة الكاثوليكية.
وكان المجمع السرّي، الذي التأم قبل ثماني سنوات، واجه سيناريو أبسط بكثير، بمرشح رئيس واحد، هو الكاردينال الألماني يوزف راتسنغر، الذي كان عميد مجمع العقيدة والإيمان، وأحد المقرّبين من البابا الراحل يوحنا بولص الثاني. وانتُخب راتسنغر في اليوم الثاني من التئام المجمع المقدس، بعد أربعة اقتراعات فقط، ليصبح بندكتوس السادس عشر.
ونقلت صحيفة نيوويرك تايمز عن الخبير البريطاني المتخصص في شؤون الفاتيكان أوستن آيفري أن الكرادلة الذين اجتمعوا عام 2005 واجهوا سؤالًا بسيطًا، هو "إذا لم ننتخب راتسنغر فمن سواه؟".
وكانت الاصطفافات مدفوعة وقتذاك بخلافات لاهوتية مع ضعف الكرادلة الليبراليين، الذين يدعمون بدائل عن راتسنغر، قد يجدها الآخرون مقبولة. ولكن ليس هناك هذه المرة ما يكفي من الليبراليين اللاهوتيين بين الكرادلة لتشكيل كتلة قوية.
انقسامات بين محافظين وإصلاحيين
وقال باولو فلوريس داكريس المحرر في مجلة ماكروميغا الإيطالية الليبرالية "إن الانقسامات حادة بين من يريدون التغيير، وخاصة بشأن قضايا الاعتداءات الجنسية على أطفال وبنك الفاتيكان، والأساقفة الذين يريدون الإبقاء على الوضع الحالي لمركز صنع القرار واحتفاظه بسلطته، وإن كانوا كلهم في الظاهر يقولون إنهم مع التغيير".
يحتاج المرشح غالبية الثلثين من أصوات 115 كاردينالًا سيجتمعون يوم الثلاثاء للفوز بمنصب البابا، أو 77 صوتًا. لكن عدد الكرادلة، الذين يشكلون كتلة الفاتيكان، يبلغ 38 كاردينالًا فقط، وهم ليسوا من إيطاليا فقط، بل من بلدان أخرى أيضًا.
وللمرة الأولى، يمكن أن يتغلب المجمع المقدس على نفوره من انتخاب بابا ينتمي إلى دولة عظمى، باختيار كاردينال من الولايات المتحدة، ولكن المحللين لا يتفقون كلهم على إمكانية ذلك. وأبرز المرشحين لمنصب البابا من الولايات المتحدة، بحسب صحيفة نيويورك تايمز، هم الكاردينال تيموثي دولان أسقف نيويورك، والكاردينال شون باتريك أومالي أسقف بوسطن، وكلاهما يعتبران من دعاة التغيير في الكنيسة الكاثوليكية.
وهناك مرشحون فرص انتخابهم بعيدة، لكنهم يستطيعون القيام بدور حاسم في اختيار البابا الجديد، ومن هؤلاء الكاردينال كريستوف شونبورن أسقف فيينا، الذي يدعم ترشيح أسقف ميلانو الكاردينال سكولا.
إذا لم تتمكن كتلة الفاتيكان وكتلة الإصلاحيين من تحشيد ما يكفي من الأصوات لمرشحهما، فهناك مرشحو الحل الوسط، وأبرزهم الكاردينال الكندي مارك أوليت، الذي يعتبر محافظًا، ويتمتع بقدر من التأييد بين كرادلة أميركا اللاتينية.
نوسترادموس وحده يعلم
ومن المرشحين الآخرين، الذين يحظون باهتمام واسع، الكاردينال بيتر إيردو من المجر، الذي لديه علاقات واسعة مع كرادلة أفريقيا.
ولخص المحرر فلوريس داكريس الوضع عشية اجتماع المجمع المقدس بالقول "لا أحد يستطيع القول بثقة من سيخرج من الاجتماع بمنصب البابا. واليوم لا أحد يستطيع إطلاق التنبؤات سوى نوستراداموس"، في إشارة إلى المنجم الفرنسي، الذي عاش في القرن السادس عشر.