بقلم: د. وجدي ثابت
يحلو لطرة من فقهاء القانون الدستوري أن يزعموا فى الآونه الأخيرة إن الموضوعية و العلمية هى حكر عليهم ، وذلك رغم جهلهم بالتطورات الحديثه لكثير من المفاهيم الدستوريه و القانونية الحديثه التى تلوك بها السنتهم عن فرنسا و عن موقف القضاء الفرنسي من تلك المفاهيم.
فاذا ما قرر القاضى - الدستورى أو الإداري - حُكمًا على نحو مغاير لِما توقعوه فهو تعبير عن قضاء مُسيّس. و كان القضاء لا ينبغى أن يعرف التطور شأنه شأن المفاهيم الدستورية كلها.
على إن الاتهام بالتسييس هو اتهام انتقائى فينجو منه قطعًا حركة مثل "قضاة من أجل مصر" وينجو منه كذلك النائب العام الحالى وقراراته العديدة، بينما يقع تحت طائلة الاتهام بالتسييس كل قضاء يقوم بدوره الطبيعى والمعتاد منذ ما يتجاوز نصف قرن فى الرقابة على مشروعية أعمال السُلطة التنفيذيه وعلى دستورية قوانين المجلس التشريعى .
إنه من الملفت للنظر اليوم إن الاتهام يوجّه بصورة غير لائقة وظالمة وغير مسبوقة إلى قاضى القانون العام بالذات –أي القضاء الإداري و الدستورى-.
فأيًا كان الحكم القضائى إداريا كان أم دستوريًا وأيًا كان موضوعه وأيًا كان العوار الذى أبرزه الحكم بأسانيده الفنية والقانونيه القوية ، فالباعث عند أصحاب الاتهام الغريض دائمًا واحد : إن القضاء مسيس وإن العوار ليس فى العمل المعيب الخاضع لرقابة القاضى ولا فى صنيعة أياديهم العبقرية، وإنما يكمن العيب فى الحُكم القضائى ذاته وفي القضاء المسيس لأنه لم يسلك الدروب التى توقعوها له.
و لم يتطرق إلى أذهانهم الفذه لحظة واحدة إنه سُلّطَ عليهم من أعمالهم : فلم يتبين القاضى أسبابهم ولا توقعاتهم التى لا تمت بصلة للتطور الحالى لعلم القانون العام.، كما لو كانت عقارب الساعة قد توقفت عند حقبة الستينات والسبعينات فى العالم كله .
ومصر تظل هكذا الدولة الوحيدة فى العالم التى يكتب على أبنائها من طلاب الحقوق أن يدرسوا سنة ٢٠١٣ و على أيدى هذا الفقه المُسيّس ترهات أصبحت ركامًا لحقبة قد مضت أو تراثًا لفترة قد زالت كنظرية أعمال السيادة التى كان أول مَن دفنها القاضى الإداري الفرنسى الذى خلقها.
إن الكثيرين من اصحاب هذا الفقه الغريض لا يدرون شيئا البته عن الحقائق القانونية التاليه فى القانون الدستورى و الإداري الفرنسي الذى يتمسحون و يتشدقون به:
اولا. القاضى الإداري الفرنسى يقبل طعون التعويضات عن التشريعات المسببه لأضرار مباشرة للافراد ، كما يقبل الاختصاص فى التعويض عن اعمال الحكومة التى تخرج عن دائرة اختصاصه إذا سببت ضررًا خاصًا للغير و يبنى قضاءه على مبدأ دستورى هام وهو المساواة أمام الأعباء العامة.
و الأحكام القضائية الفرنسية موجوده حديثه و يمكن لكل باحث ان يقراها ليتاكد من مغالطات الفقه الذى يدعى بان اعمال السياده ليست محلا لاى طعن و باأي وجه حتى فى فرنسا !
ثانيا. لقد اتسعت رقابة الالغاء على أعمال السُلطة التنفيذيه اتساعًا مهولاً و غير مسبوق فى فرنسا و شمل ذلك اعمالاً ما كانت لتدخل فى اختصاص القضاء الإداري لولا التطور الهائل الذى لحق بكل شئ بما فى ذلك مفهوم الدولة القانونية وعلم القانون بطبيعة الحال.
ومثال ذلك القرارات السابقة على ابرام المعاهدات و القرارات المرتبطه بالمعاهدات الدوليه و تنفيذها. و الأحكام القضائية عديده فى هذا المجال و لعل المعرفه بها تدعو هذا الفقه الى الحياء و الخجل من ترديد كلمة اعمال السياده على عوانها و بلا تمييز.
ثالثا. فى طعون الانتخابات على وجه الخصوص و كل ما يشمل دعوة الناخبين و اجراء ات الانتخاب و الاستفتاء، كل ذلك يخضع لرقابه المجلس الدستورى الفرنسى و بعض الطعون لازالت تتعلق حتى اليوم باختصاص مجلس الدولة الفرنسي. و القول بعكس ذلك هو جهل تام بالقانون العام الفرنسى و بأحكام القضاء الفرنسي. اننى لا املك الا الدهشه و الحسرى عند سماع تصريحات بعض المتفيقهيين من المقربين للسلطه فى حديثهم عن الفقه و القانون الفرنسى الذى يجهلون كل تطوراته فى الثلاثين سنة الاخيرة . و يؤكدون بيقين المؤمن ان لا اختصاص للقضاء الفرنسى بقرارات رئيس الجمهورية بينما الأحكام الصادرة من القضاء الإداري و الدستورى الفرنسي موجوده و متاحة لو استطاعوا قراءاتها و فهمها لما ثارت مشكلة اصلا.
رابعًا. إن حرمان الافراد من حقوق الطعن و اللجوء لقاضيهم الطبيعى كان ايضا معتبرا كعمل من اعمال السياده فى نظر الفقيه الجهبذ الذى وضع الاعلان الدستورى الصادر فى ٢١ نوفمبر! بما فى ذلك من عدوان مزدوج من ناحيه على حق المواطن فى اللجوء للقضاء و من ناحية اخرى على الاختصاصات الدستورية للقاضى.
و فى ذات السياق و بذات التكييف لا يجوز ان يعزل نائب عام من منصبه بقرار جمهورى و بالارادة المنفرده لرئيس السُلطة التفيذية و ان يعين اخر بذات الاراده و بدون الاجراءات و الضمانات التى تضمنها الدستور و قانون السُلطة القضائية فى التعيين . فكل هذا البله ليس من اعمال السيادة فى شئ و انما هو نوع من القرصنه و القرارات غير المشروعة.
خامسا. و ماذا لو علموا بان القضاء الدستورى الفرنسي يخلق ما يسمى بالمبادئ ذات القيمه الدستورية و يستلهمها من نصوص عديدة بعضها موجود فى تشريعات اساسية كبرى او فى معاهدات لحقوق الانسان و لا وجود لها اصلا فى الدستور ؟
أين حريه تكوين الجمعيات فى الدستور الفرنسى ؟ و اين مبدا احترام الكرامة الانسانيه ؟ و اين مبدا استقلال الاساتذه الجامعيين و استقلال القضاء او فصل السُلطة التنفيذيه عن السلطة القضائيه ؟ كلها مبادئ دستورية من صنع القاضى الدستورى الفرنسي فى اطار رقابته السابقه على الدستوريه التى اعتبرها عباقرة القانون فى مصر رقابة سياسية محضه.
بل اكثر من ذلك فقد خلق القاضى الدستورى موجهات دستورية جديده تقيد ارادة المشرع و منها "الغايات ذات الطبيعة الدستورية" او ما يسمى "بالاهداف الدستورية للتشريع و مدى بعده عنها" . فيجازى التشريع و يقضى بعدم دستوريته اذا لم يحترم الاهداف الدستورية التى وضعها له القاضى الدستورى و لا نص عليها فى الدستور ذاته .
لا شك ان رد فعل طرة من الفقه الدستورى المسيس فى مصر قد يبدا بالاغماء و قد ينتهى بالصراخ و العويل عندما يقراون حكما من القاضى الدستورى الفرنسي يقرر فيه عدم دستورية تشريع جديد لانه الغى ضمانات كانت موجوده فى التشريع الملغى دون ان يستبدلها بضمانات مساويه لها فى الفعالية و هو قيد هائل على ارادة المشرع. وهو ما يعرف فى فرنسا بنظرية "التشريع المرتد".
سادسًا. ومن الاهداف ذات القيمه الدستورية التى يجب ان يتوخاها التشريع و الا قضى بعدم دستوريته هو مبدا شفافيه و حسن صياغة التشريع و كم الغيت تشريعات فى فرنسا لهذا السبب وحده فهو فى ذاته قيد يفرض على المشرع رصانة العبارة و حسن الصياغة و دقتها و انضباطها مما يعنى استبعاد المفردات الانشائية او المطاطه و انتقاء الصيغ المعبرة عن قواعد معيارية و تتناول بدقه و أحكام سلوك محدد. و لو خرج المشرع عن هذه الضوابط لقضى بعدم دستورية التشريع. و كل ذلك يقوم بيه القاضي الدستوري الفرنسي فى اطار الرقابه السابقة على دستورية التشريع و لأحكامه حجية الشئ المقضى به و تلزم كافة السلطات القضائية و التشريعية و التنفيذية فى الدولة. و من هذه الاهداف ايضا مبدأ حماية تعددية المذاهب الفكرية و الفلسفية و السياسية و كل تشريع يهدد هذا المبدا و لا يكفله يتعرض للالغاء. فالمبدأ ليس موجودا فى نص دستورى مكتوب و أنما تصوغه أحكام القاضي الدستوري. و لم يتهم احد فى فرنسا القتضىى الدستورى بالتسييس بالمعنى الذى يستهمه الفقه الدستوري المتحزب فى مصر.
فى النهاية لا املك إلا التنبيه بمواطن القصور و مواضع الزلل و تكرار ما ردده غيرى باننا بصدد جهل نشيط يحكم البلاد و يدعى علما بما هو موجود فى فرنسا لتبرير انتقاداته العرجاء للقاضي المصري بينما الجهل بالقانون الفرنسي واضح فى كثير من التصريحات.
إن من واجبي كأستاذ مصري يقوم بتدريس القانون الدستوري و الإداري الفرنسي منذ عشرين عاما بكليات الحقوق الفرنسية الا اقبل هذا العبث بالعلم فى سبيل السياسة.
بقى سؤال أخير : لماذا هذه البدائية والتأخر فى الاطلاع على تطورات المفاهيم الدستورية ألحديثه و التى أصبح لها مضامين و أبعاد جديدة فى العالم كله إلا فى أعين بعض اساتذه القانون العام المصريين ؟حتى انه للازال بعضهم ينادى فى الجو المحتقن الحالى باعلان حالة الطوارئ فى البلاد باسرها و فرض الأحكام الاستثنائية !!!
لماذا هذه البدائية ؟ هذا هو ملخص المأساة
أستاذ بكلية الحقوق و العلوم السياسة جامعة لاروشيل - فرنسا
عضو الجمعية الفرنسية للدستوريين