حالة الاحتقان السياسي المصري أو المعضلة السياسية ليست في الانقسام الحاد بين فصائل الشعب المصري حتى نبحث عن توافق بينها، فالاختلاف والتنوع دليل ثراء ثمين علينا أن نحرص عليه، ليكون محكوماً بآليات الديموقراطية ومصالح الوطن، لكن المشكلة التي علينا مواجهتها أن بيننا من يعادون الإنسانية والحضارة والعصر، هؤلاء الذين يحارب العالم أفكارهم، كما يطارد شخوصهم باعتبارهم إرهابيين، بينما نحن مضطرون نظرياً لاعتبارهم فصيل مصري له ذات حقوق البشر الأسوياء، ما هو كفيل بامتناع السياح والمستثمرين الأجانب عن الاقتراب من مصر المحروسة (المحروقة)، بل والتعامل معها باعتبارها منطقة خطرة، ولن نركز في هذه السطور على أمر غاية في الخطورة، أن الشعب المصري أتى بمن عُرف عنهم "احتراف القتل التخريب" على مستوى مصر والعالم، ولم يُعرف عنهم سابقة خبرة أو نية "للبناء والتعمير"، لكي يصنعوا لنا نهضة وعدونا بها، والحقيقة أن أمر دعاة الظلمة والجهالة هؤلاء ليس شأناً محلياً نسائل عنه الشعب المصري أو حكامه السابقين وحدهم، فالأمر أشمل وأعم من ذلك، فالحياة ومسيرة البشرية يحكمها ويدفعها للتطور جدل أو صراع الأضداد negation، وإذا اختفى هذا الصراع توقفت الحياة، ولقد كان سقوط الكتلة الشرقية أوائل التسعينات وما خلفته من فراغ نذيراً بتعاظم شأن جماعات وتنظيمات التأسلم السياسي، الذي كان قد نما بما يكفي ليلعب دور الضد للحضارة الإنسانية
نتائج صناديق الاقتراع هي بطبيعتها مجرد "تحصيل الحاصل"، أو هي عبارة عن جمع الثمار من النباتات المزروعة بالفعل في الأرض، لذا فتقديسها باعتبارها آلية حديثة لابد وأن تنتج لنا نظاماً حديثاً وتقدماً حضارياً هي بساطة إن لم نقل سذاجة تترتب على الإغراق في العبودية للتفكير النظري المحض والمفارقة لحقائق الواقع، فالأرض في مصر وسائر بلاد الشرق الأوسط قد تم استزراعها خلال المراحل الماضية بكافة أنواع الأشواك والنباتات السامة، وسادت عليها نظم من الصحيح توصيفها بأنها نظم استبدادية تقمع التطور، لكنها أيضاً بكونها مفارقة لروح شعوبها جزئياً كانت تخفف بعض الشيء من وبال الثمار المرة التي تنتجها الشعوب، وذلك في محاولتها مواكبة العالم والاستفادة من روح العصر وحضارته، شهدنا هذا في مصر على يد مبارك، وفي تونس على يد زين العابدين بن علي، ومازلنا نشهده في الأردن على يد الملك عبد الله الثاني. . لا نقول هذا دفاعاً أو حنيناً لما كان، ولا للتراجع عن مسيرة التغيير عبر قيام الشعب بنفسه بعملية تحديد مصيره، ولكننا عندما ننتقل فجأة عبر صناديق الاقتراع إلى الاحتكام لما تنتجه الأرض المزروعة بالتخلف، لا ينبغي لنا أن نتوقع نتائج إيجابية فورية، بل نتوقع الانزلاق إلى الأسوأ ونحن نبحث عن طرق جديدة نسلكها، دون أن نذهب إلى التفكير في الارتداد عن المسيرة، وإنما الحل هو المضي قدماً وعيوننا مفتوحة بحثاً عن وسيلة نستزرع بها نباتات جديدة ذات ثمار قابلة للتذوق والتغذي عليها.
الآن وطوفان اللاشرعية والأخونة يدفع المصريين نحو انتخابات نيابية، نحسب أن دخول بعض العناصر الليبرالية والعلمانية إلى المجالس النيابية الآن لن يعدو أن يكون محاولة وإن غير متعمدة لتجميل تلك المجالس من حيث الشكل فقط، أي لتلعب دور "ورقة التوت" لستر عورة نظام فاشي كريه، فالمضمون أو مخرجات هذه المجالس من قوانين وخلافه ستأتي وفق ما يرد لها من تعليمات من خارجها، أي من مكتب الإرشاد، وبالتحديد من العناصر المتحكمة في هذا المكتب المقدس المؤسس على البيعة والسمع والطاعة. . عظيم في نظري ما يبدو من جنوح جبهة الإنقاذ أو بعض مكوناتها لعدم المشاركة في الانتخابات البرلمانية، وإن كان يزعجني عدم وضوحهم في أن السبب الأساسي هو رفضهم لأن يكونوا جزءاً من نظام فقد شرعيته بأدائه المنتهك للشرعية القانونية والسياسية، فالإخوان يجرجرون باقي فصائل الوطن وهم سادرون في مسيرة اللاشرعية التي يقترفونا بامتداد خطواتهم. . الأمر أشبه بأن يقال: "القافلة تسير والمعارضة تعوي"، فيما يستهلكون الوقت وهم يسحبون الجميع إلى طريقهم المرسوم، بأحاديث عن حوارات شكلية حزبية أو رئاسية، وكأنها ورود ينثرونها على طريق مفروش بالأشواك والانتهاكات الإنسانية والسياسية والدستورية والقانونية.
نعم السياسة هي فن الممكن، لكنها إن لم تسر على هدي بوصلة المبادئ ضاعت سفينتها في متاهة بلا حدود ولا شطآن، أيضاً الطمع في مكان على القمة دون تواجد حقيقي في قاعدة الهرم أي في الشارع المصري هو أمر لا يبعث على الاحترام، علاوة على استحالة الحصول من مثل هذه المحاولات على نتائج ملموسة ذات قيمة، فهي لن تنتج على الأكثر غير معارضة ديكورية تخدم النظام وتمنحه شكلاً ديموقراطياً خاوياً من المضمون الحقيقي للديموقراطية، خاصة إذا كان الطرف الآخر لا يؤمن بالممارسة الديموقراطية التي تثمر نقاشاً موضوعياً للقضايا المعروضة، بحيث يمكن استقطاب بعض كوادر الأغلبية لصالح موقف المعارضة في بعض المواضيع انتصاراً للصالح الوطني.
الحقيقة أنها مهزلة مصرية ربما نرى مثيلاً لها في بعض الدول التي تنتقل من الاستبداد إلى الشكل الديموقراطي للحكم، أن يتم على عجل إعلان عناوين أو أسماء أحزاب دون تأسيس حقيقي على الأرض لها، ثم نطمح في وصول مثل هذه الأحزاب إلى الحكم، أو على الأقل نطمح في أن تصير معارضة ذات وزن واعتبار، وهذا ببساطة ومهما كانت ضرورات الواقع وضغوطه غير عملي وشبه مستحيل. . في الانتخابات النيابية المصرية الأولى رأينا قادة تلك الأحزاب الحديثة يتوسلون مهلة ستة شهور لكي يؤسسوا قواعد لأحزابهم، والآن مر أكثر من عام لتأتي انتخابات نيابية أخرى، ومازالت تلك الأحزاب غير مستعدة، ولم تتقدم خطوات يعتد بها نحو تأسيس قاعدة وكوادر منظمة قادرة على استقطاب وتحريك الجماهير، ذلك أن الانشغال بالتواجد الإعلامي والمؤتمرات والبيانات الساخنة هو جل ما يشغلها، بل ونستطيع القول أن دعاة العلم والعلمانية ينتهجون نهجاً تهريجياً عشوائياً في العمل السياسي، فيما دعاة الردة الحضارية والجهالة يستخدمون المناهج العلمية لتأسيس منظماتهم وكياناتهم!!
صحيح أنه وفق أكثر الحسابات تشاؤماً (أو تفاؤلاً بالنسبة للمتأسلم) قبل ثورة يناير وبعيدها أن قوة الإسلاميين التصويتية بين 35- 40%، ولقد فاجأ الشعب المصري نفسه بمنحهم ما يقارب 75% من الأصوات في أول اقتراعات، ولا يُستبعد الآن من الشعب مفاجأة معاكسة تعيدهم على الأقل إلى حجمهم الطبيعي، قبل أن يرسلهم الشعب إلى مقرهم النهائي كماض ولى ولا يمكن أن يعود، لكن هناك مؤشرات أخرى لا ينبغي أن تغيب عنا، فرغم حالة النقمة والتذمر الدائم من الشعب المصري على حاكمه أياً كان هذا الحاكم، إلا أن قطاعاً لا بأس به منه يميل للتصويت لصالح الحاكم طلباً للاستقرار، ربما بسبب طبيعة المناخ والجغرافيا المصرية التي تطبع الإنسان بطابعها، وتفضيلاً للانضواء تحت لواء الحاكم وفي معيته، ربما بسبب قدم مركزية الدولة، ولقد كان الشعب المصري يصوت لمبارك بغض النظر عن التزوير الممنهج، والآن سيحدث نفس الشيء مع الإخوان، رغم توقعاتنا بتضاؤل ذلك النهج في التصويت مع المتغيرات التي طرأت على الشارع المصري وعلى ما يسمى "حزب الكنبة" بعد الثورة. . هناك أيضاً أن رموز التيارات المدنية يكادون إلا نفر يعد على أصابع اليدين أن يكونوا مجرد ظواهر إعلامية مجهولة بالنسبة للشارع المصري، وحتى هؤلاء النجوم عددهم غير كاف لمواجهة الكوادر الإسلامية على 546 مقعداً من مقاعد مجلس النواب، فالخيار الانتخابي للإنسان المصري البسيط يكاد يكون منحصراً بين كوادر التأسلم وبين الخواء!!
لدينا أيضاً تلك الفجوة بين رموز "جبهة الإنقاذ" وبين الشباب الثائر، والتي نرى مؤشراتها في بوادر انشقاقات داخلها، ما يرجع إلى أن الحكماء أمثال نجوم "جبهة الإنقاذ" لا يثورون، الثورة فعل جنوني لأنه خروج على الخطوط المستقيمة الأزلية، فالحكماء ينتهجون الإصلاح الجزئي والتدريجي، إن لم يكن أقصى ما يستطيعونه الحركة في المكان أو ما تسميه العسكرية "محلك سر"، أما القفزات التي حدثت في تاريخ البشرية، وبعضها جاء مدمراً، والبعض الآخر وصل بنا إلى ما نحن عليه الآن من حضارة، فنحن جميعاً مدينون بها للمجانين من هذا النوع ولا أحداً غيرهم!!
على وجه العموم مصر الآن ومعها دول ما سمي "الربيع العربي" في حالة سيولة وسخونة وصراع، وفي خضم هذه الظروف من الصعب التكهن بما سيحدث غداً وبعد غد، كما من الصعب تبين الطريق الصحيح بقدر كاف من اليقين، وربما كنا في حالة أشبه بما قيل عنه قديماً "البحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة"!!