بقلم: مهندس عزمي إبراهيـم
وقال الرب: "وأعطيكم رعاة حسب قلبي فيرعونكم بالمعرفة والفهم" (إر 10:3).
في مثل هذا الشهر، مارس، فارَقَ عالمنا ضمن من فارقنا، ثلاثة عمالقة الإيمان المسيحي في العصر الحديث. عبروا عالم الفناء إلى عالم الرحمة والبقاء الأبدي في رحاب خالقهم. هؤلاء الثلاثة تشهد لهم سيرتهم وأعمالهم الروحية وخدماتهم للإنسانية وآثارهم التي تركوها لنا بأنهم أبراراً قديسين صِدِّيقين. وكما قيل "ذكرى الصِدِّيق تدوم إلى الأبد". وكلمة صِدِّيق فى المفهوم المسيحى هى اشارة الى الانسان النقى القلب الصالح فى ايمانه والبار في أعماله وأقواله وسلوكه الروحى المثالى. والبر هو من ثمار استقرار الروح القدس فى النفس.
هؤلاء الثلاثة كانوا رعاة صالحين اختارهم الرب فكانوا خداماً أبراراً لا للأقباط فقط، ولا للمسيحية فقط ، بل للبشرية كلها. في شهر مارس نحتفل بذكرى رحيلهم فطوباهم.
*******
البابا كيرلس السادس:
يوم 9 مارس 2013، كان يوم الذكرى الثانية والأربعين لانتقال رجل الله، مثلث الرحمات قداسة البابا كيرلس السادس (2 أغسطس 1902 - 9 مارس 1971). وقد كتب أبنائه ومحبيه منذ بضعة أيام، في يوم ذكراه، الكثير عن سيرته وصفاته وروحانياته وأعماله ومعجزاته. ولكن رغم أني لم تسعدني الظروف بمقابلة قداسته ونوال البركة منه شخصياً. أود أن أنوه بنقطتين:
النقطة الأولى أن ترتيبه كان السادس بين الرهبان المرشحين للبابوية عام 1959، وكان على لجنة الترشيح حسب لائحة 1957 أن تقدم للشعب الخمسة المرشحين الأوائل. وفي اللحظة الأخيرة أجمع الرأي على تنحّي الراهب المرشح الخامس، فتقدم السادس ليصبح الخامس. ثم أجريت عملية تصويت الشعب لاختيار ثلاثة منهم فكان آخر الثلاثة. وعند إجراء القرعة الهيكلية في الأحد 19 إبريل 1959 ولم يخطر ببال أحد أن يكون إنجيل القداس في ذلك اليوم يتنبأ عنه إذ يقول "هكذا يكون الآخرون أولين والأولون يصيرون آخرين." (مت16:20) وكان اختيار الله له نتيجة القرعة. ومن هنا جاء تلقيبه ب "رجل الله". كما لقب أيضاً بـ "صديق الملائكه" وبـ "أرميا الجديد" وبـ "محب الإله"
أما النقطة الثانية فهي أن عهد قداسته تميز بانتعاش الإيمان ونمو القيم الروحية ولاشك أن ذلك راجع لأن غبطته إنما وضع في قلبه أن يقدس ذاته من أجل رعيته، أي يقدمها خدمة لرعيته على مثال السيد المسيح معلمه الذي قال "لاجلهم أقدس أنا ذاتي" (يو 17: 19). كان قداسة البابا كيرلس حبيباً للجميع ومحبوباً منهم، حتى كانت علاقته مع صديقه وحبيبه الرئيس جمال عبد الناصر من أعظم وأخلص علاقات حكام مصر لبطريك الأقباط.
*******
البابا شنودة الثالث:
ويوم 17 مارس 2013، كان يوم الذكرى الأولى لانتقال رجل الحكمة، مثلث الرحمات قداسة البابا شنودة الثالث (3 أغسطس 1923 - 17 مارس 2012). وسيرة وشخصية وأعمال قداسة البابا شنودة ما زالت حيَّة في الأذهان. كما أن أبنائه ومحبيه كتبوا حديثاً الكثير منها وعنها في ذكرى سنويته الأولي منذ أيام قليلة. ولكن يشرفني أن أنوه بنوالي البركة في مقابلتين مع قداسته.
المقابلة الأولى كانت في ابريل 1977، في أولى زيارات قداسته لأمريكا لرعاية أبنائه بها. وفي هذه الزيارة تمت مقابلته مع كورت فالدهيم سكرتير الأمم المتحدة 18 أبريل 1977 في نيويورك، ومقابلته مع جيمي كارتر رئيس أمريكا20 أبريل 1977 في واشنجتون. وكانت هذه الزيارة أول زيارة يقوم أحد باباوات الكنيسة لأمريكا. وفي زيارته لواشنجتون اجتمع البابا بأبناء الجالية القبطية المقيمة بالعاصمة وبالولايات المحيطة بها ماريلاند وفيرجينيا وغيرها. ولم يكن للجالية كنيسة أورثوذكسية بالمنطقة بعد، فاستؤجرت كنيسة ليلتقي بأبنائه وليقيم القداس الإلهي معهم. وأذكر أن الجالية، وكانت قليلة العدد، تخوَفَت على حياة البابا وسلامته لو أقام بأحد الفنادق نظراً للخلافات التي كانت جارية حينئذ بينه وبين السادات، فقرَّرَت أن يقيم في منزل أحد أبناء الجالية بعد تدبير الحراسة المناسبة لمكانته من الجهات الأمنية المسئولة. وطبعا نلت البركة أنا وزوجتي من قداسته بالقداس وبالمحاضرة واجابة الأسئلة بعد القداس. وفي اليوم التالي أقام سفير مصر لأمريكا حفل استقبال كبير لقداسته، دعيت أنا وزوجتي لحضوره.
وكان لقائي الثاني بقداسته في عام 2006، عندما قام بمباركة احدى الكنائس بأمريكا وكان لي الشرف بالاتصال بالمسئولين بجهاز التحقيقات والأمن الفيدرالي (الـ اف بي آي) والشرطة المحلية لتأمين استقبال قداسته واقامته للقداس الإلهي ثم سفره.
*****
القمص بيشوي كامل:
نَوَّهْتُ أعلاه أن كثيرون كتبوا عن القديسين المُطَوَبَين البابا كيرلس والبابا شنودة في الأسبوعين الماضيين. أود الآن أن أضم إلى قداستهما، ثالث الرعاة الذين نحتفل بذكرى رحيلهم في شهر مارس وهو القديس القمص أبونا بيشوي كامل (6 ديسمبر 1931 - 21 مارس 1979).
فيوم 21 مارس 2013، هو يوم الذكرى الرابعة والثلاثين لانتقال أبونا القمص بيشوي كامل. ومما يُشهد لهذا القديس الروحاني أنه لم يبني نفسه، عقله وروحه وشخصيته، بدقائق وحنايا وثروات الدين المسيحي والتاريخ القبطي فقط، بل بالعديد من الثقافات العلمية الأكاديمية. فقد كان عالماً مثقفاً في الساحتين، ساحة الدين وساحة العلم.
- حصل على بكالوريوس علوم قسم جيولوجيا من جامعة الإسكندرية سنة 1951، بتقدير جيد.
- التحق بمعهد التربية العالي للمعلمين وحصل على دبلوم تربية وعلم نفس سنة 1952، بتقدير ممتاز وكان ترتيبه الأول على دفعته.
- ومع صغر سنه فقد عَينته وزارة التربية والتعليم مُدرساً للعلوم فى مدرسة الرمل الثانوية للبنين. بالإسكندرية.
- حصل على ليسانس آداب - فلسفة - سنة 1954.
- عين معيدا بمعهد التربية العالي بالإسكندرية سنة 1957، وهو معهد تابع لوزارة التربية والتعليم.
- التحق بكلية التربية بالقاهرة سنة 1958، وحصل على دبلوم التخصص في علم النفس في أكتوبر سنة 1959.
على أن كل هذه الدراسات والتحصيلات الأكاديمية لم تشبع تطلعاته الداخلية للروحيات، ففي خلال دراساته الأكاديمية دخل الكلية الإكليريكية وتخرج منها سنة 1956، بتفوق وكان الأول على دفعته. وفى السنة عينها أنتخب الأمين العام لجماعة خدام الكنيسة. وفى بداية العام الدراسي لسنة 1957، عُين مُدرساً مساعداً بالمعهد العالي للتربية فى الاسكندرية. وهكذا إستمر ينمو فى النعمة والحكمة والقامة الروحية يوماً بعد يوم.
بدأ سامي كامل اسحق أسعد خدمته الكنسية وهو في السابعة عشر من عمره بكنيسة السيدة العذراء بمحرم بك وكان طالباً في الجامعة، واستمر في خدمته مع دراسته بنجاح.
ويقول أحد تلاميذه في مدارس الأحد، والذي أصبح فيما بعد كاهناً "كنا بنشوف الأستاذ سامي موجود في الكنيسة كل يوم خميس وجمعة بصفة دائمة، وفي الصوم الكبير كان يذهب إلى فراش الكنيسة، عم بولس، ويأكل معه وجبة الغذاء. وكان طاحونة لا تتوقف أبدا عن العمل، ينتظر الأطفال ويتابع كل شئ لدرجة أننا كنا نراه في أوقات من شدة الإرهاق جالسا على سلم الكنيسة الرخام وهو نائم، وكنا نشفق عليه ولكن لا ندري ما يمكننا عمله لكي نريحه ولو قليلا وهو استأذنا الكبير، فقد كان لا يعطي نفسه راحة ولا يشفق على نفسه أبداً.. كل هذا وهو علماني!!" أي لم يكن دخل سلك الكنهوت بعد. كما خدم الاستاذ سامي الشباب الجامعي حتى أصبح أمينا عاما للخدمة رغم صغر سنه.
وفي آخر أيام شهر ديسمبر عام 1954 ومع فترة صوم الميلاد اشتاقت نفسه إلى طريق الرهبنة، ووقع اختياره على دير السريان بوادي النطرون، وبدأ يعد نفسه لذلك، إلا ان مشيئة الله كان لها تدبير آخر. ففي خلال استعداده للسفر إلى الدير مرض والده بجلطة دموية فأرجأ الفكرة لوقت آخر، ولكن اشتياقه ظل داخله فكان يشترك في الرحلات إلى الدير وحدث أثناء أحدى تلك الزيارات أن دخل إلي المقصورة حيث جسد القديس بيشوي في ديره وأخذ يناجيه: "يا ريت أتشرف باسمك يا أنبا بيشوي" فقد كان يتمنى أن يصبح "راهباً" باسم بيشوي ولكن إرادة الله دبرت له أن يصبح "كاهناً" باسم بيشوي.
حدث فى مساء الأربعاء 18 نوفمبر 1959، أنه إستصحب فصل مدارس التربية الكنسسية الذي يدرس له إلى الدار الباباوية لينالوا بركة البابا كيرلس السادس وما أن قبل يديه حتى فوجيء بأنه سيرسمه كاهناً بعد أربعة أيام. فقد كان البابا قبل دخول الأستاذ سامي جالسا مع أب كاهن ذي حساسية روحية عميقة هو القمص مينا اسكندر وكانا يتناقشان حول قطعة أرض اشترتها الباباوية القبطية بالإسكندرية على خط الترام في اسبورتنج لإقامة كنيسة باسم مارجرجس وقال البابا "لن نستطيع البدء في بناء الكنيسة قبل رسامة كاهن خاص بها" وما كاد ينتهي من القول حتى دخل الاستاذ سامي بأولاده في التربية الكنسية، فهتف أبونا مينا على الفور "ها هو الشاب الذي يصلح لأن يرعى شعب كنيسة مارجرجس" وبعد أسئلة قليلة وضع البابا الصليب على رأس سامي كامل ويقول: "أنها علامة معطاة من الله أن تصبح كاهنا وسأرسمك الأحد المقبل". ذُهِل الخادم سامي من وقع المفاجأة واستجمع شجاعته وقال: "ولكني لست متزوجاً!" فأجابه قداسة البابا " الروح القدس الذي ألهمني إلى أتخاذ هذا القرار هو يختار لك العروس" ومنحه فرصة يومين فذهب لتوه إلى مقصورة السيدة العذراء وأخذ يصلي بحرارة ليظهر له الرب إرادته. وهكذا حدث أن الروح القدس أرشد سامي كامل إلى أن يطلب يد "انجيل باسيلي" (بكالوريوس اقتصاد وعلوم سياسية من جامعة الإسكندرية) أخت فايز وجورج باسيلي زميليه في الخدمة واللذان فرحا به جدا وقالا لأبويهما إن سامي كامل ذو نقاء ملائكي. ولكن العجيب في الأمر أن العروس لم توافق، بسبب رغبتها هي الآخرى في الرهبنة. إلا أنه أبونا مينا أسكندر تدخل وأقنعها وتمت الخطوبة يوم الخميس 19 نوفمبر 1959، ولم يحضرها سوى أهل العروس فقط. وذهب سامي في اليوم التالي إلى الدير ووجد هذه المرة صعوبة كبيرة جدا حتى أنه وصل للدير بعد 29 ساعة وهو في غاية التعب والضيق راجياً أن يعلن له الرب إرادته بوضوح، إما باتمام الزواج ومن ثم الكهنوت، وإما بطريق الرهبنة التي كان يريدها لنفسه. وجاء أبونا مينا ليبلغه أنه قد رأى في حلم أن أكليلا وضع على رأسه وتلى ذلك ضغوط ممن حوله ولم يكن له سوى الصلاة حتى تمت الإرادة السماوية لتتم صلوات الأكليل مساء الثلاثاء 24 نوفمبر والطريف أن أهل العريس لم يروا العروس إلا ليلة الأكليل!! ومما يجدر ذكره أن أبونا بيشوي وتسوني أنجيل عاشا في بتولية كاملة حتى الوفاة.
وتمت أخيرا سيامته كاهنا بإسم بيشوي كامل يوم الأربعاء 2 ديسمبر عام 1959، على مذبح كنيسة الشهيد العظيم ما رجرجس باسبورتنج - كانت الكنيسة في ذلك الوقت عبارة عن سقيفة (مبنى صغير من الطوب الأحمر دون طلاء والسقف من قطع الخيام التي تستخدم في السرداقات) وتم تجهيز مذبحها ليُرشم عليه أبونا بيشوى. ثم قصد بعد ذلك دير السيدة العذراء للسريان حيث قضى فترة الأربعين يوما التي يقضيها الكاهن بعد رسامته هناك تبعاً للتقليد الكنسية. وعاد من الدير ليبدأ في بناء كنيسته. والتي صارت من أشهر كنائس الإسكندرية وأصبحت كنيسة مارجرجس باسبورتنج أمٌ ولود فيرجع لها الفضل ولأبينا المحبوب بيشوي كامل الذي لم يتمركز في خدمته باسبورتنج فقط وأنما أمتدت خدمته المباركة إلى مناطق كثيرة بالاسكندرية وكأنه أصبح خادما وكاهنا للإسكندرية بأكملها فقام بتأسيس الكنائس الآتية:
- كنيسة مارجرجس بالحضرة
- كنيسة رئيس الملائكة ميخائيل بمصطفى كامل
- كنيسة الأنبا تكلا هيمانوت بالإبراهيمية
- كنيسة القديس مار مرقس والبابا بطرس خاتم الشهداء بسيدي بشر
- كنيسة العذراء والقديس كيرلس عامود الدين بكيلوباترا
- كنيسة الأنبا أنطونيوس والأنبا بيشوي بحي اللبان.
كذالك كان القمص بيشوي
- أول من فكر في إنشاء حضانة لأطفال الأمهات العاملات بكنيسة مارجرجس باسبورتنج والتي أخذتها عنه كنائس الإسكندرية ثم ما لبثت أن عمت الفكرة كنائس مصر كلها.
- أول من أحيا التقليد الكنسي القديم الخاص بالسهر في الكنيسة ليلة رأس السنة القبطية "عيد النيروز"، ورأس السنة الميلادية وسارت في دربه كل الكنائس فيما بعد.
- ولقد عنى عناية خاصة بتعاليم الكنيسة وتقاليدها وحتى وصيته الآخيرة لأخوته الكهنة كانت رجاؤه إليهم بأن يحافظوا بكل دقة على التقاليد الحية التى تسلمناها جيلاً بعد جيل وذلك لكي يعيش أولادهم بروح الكنيسة ويبتهجوا بعضويتهم فيها.
- لم تقتصر خدمته على المسيحيين فقط بل شملت أيضاً غير المسيحيين فأبُوَّته قد شملك الكل دون تمييز.
- وكما أعطى الشعب الصورة الإلهية لسيده كذلك أصبحت كنيسته على حد تعبير قداسة البابا شنودة الثالث مركز إشعاع، ولقد بلغ إشعاع كنيسته ومغنطيسية شخصيته مبلغاً أدى إلى رسامة عدداً كبيراً من أبنائه كهنة.
أما خدمته في خارج مصر، فكانت رسالة روحية رائعة. فإنسان بهذه القامة الروحية لم يكن ممكناً أن يتركه الآب السماوي للخدمة داخل حدود مصر فقط. وأول باب فتحه له هو إنتدابه لتمثيل الكنيسة القبطية فى مؤتمرين بجنيف بسويسرا. ثم رأى البابا كيرلس السادس أن يمد رعايته نحو الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة الأمريكية فإنتدب أبونا بيشوي كامل لهذه الخدمة الرعوية، وقبل أن يغادر مصر طلب قداسة البابا كيرلس السادس من الأنبا مكسيموس مطران القليوبية أن يرسمه قُمُّصاً.
وصل أبونا القمص بيشوي كامل لوس أنجلوس فى 8 نوفمبر 1969، ووصلها عشية عيد كاروزنا العظيم مارمرقس فكان أول قداس رفعه بتلك المدينة يوم 9 نوفمبر 1969، وامتلأ قلبه نشوة إذ تيقن من أن الإنجيلي الشهيد كان واقفاً بجانبه. وزار جيرسي سيتي حيث نجح فى شراء كنيسة دعاها بإسم مارجرجس والأنبا شنودة فى 15مايو 1974. كذلك قام برحلات رعوية إلى سان فرنسيسكو ودنفر وهيوستن وبورتلاند وسياتل. ومنذ خدمته هناك شاء فاديه الحبيب أن يفتح له باب الخدمة فى إنجترا وفرنسا والنمسا وبين سفرية وأخرى يعود إلى مصر لينتعش بالإرتواء من قديسيها وشهدائها على حد تعبيره شخصياً.
أصيب أبونا بيشوي كامل بمرض السرطان والذى أطلق عليه "مرض الفردوس" ومن المعروف عند الجميع أن الآلام التى يُسببها مرض السرطان عنيفة ومُبرحة جداً ولكن أبونا بيشوي عاش الصليب من البداية. عاش صليب الآلام كما عاش صليب الفرح، بل وأكد الناحيتين بلا هوادة. ولما اضطره الوجع إلى ملازمة الفراش كان رد فعل الألم لديه صبراً وصمتاً وتركيزاً للعينين على الصليب. أما فترات الهدوء بين هجمات الوجع الباطشة فكان يقضيها فى الترنم بالتسابيح والتماجيد وأيضاً فى خدمة من يأتون إليه أو من يرسل هو فى طلبهم!
ومن أعجب عمل الله فيه أنه حتى وهو ملقى على سريره أوصل الكثيرين إلى فاديه الحبيب وهكذا كانت شهادة أبينا بيشوي كامل بعظائم الله خلال مرضه أبعد أثراً منها وهو فى صحته لأن جميع الذين رآوه فى تلك الفترة رآوا فيه ملاكاً سماوياً ، وكان عيد الصليب قبل النهاية بيومين (وعيد الصليب يستمر ثلاثة أيام) وكان اليوم الثالث لعيد الصليب فى 12 برمهات ويتطابق مع 21 مارس وهو اليوم الذي تحتفل فيه الكنيسة بعيد رئيس جند السمائيين الملاك ميخائيل،. فاضت روح القمص بيشوي كامل الطاهره إلى السماء وإلي المصلوب الذي عشقه وذاب فى خدمته وكان ذلك فى 21 مارس 1979. وعن حَقٍ اكتسب لقب"حامل الصليب". وقامت الاسكندرية بل مصر كلها بتوديعه وإلقاء نظرة الوداع عليه.
أما عن تجاربي الشخصية مع هذا القديس البار تتركز في أن زوجتي قبل أن نتعارف كانت من رواد كنيسة مارجرجس باسبورتنج الأسكندرية، وخلال فترة خطوبتنا كنا معاً من رواد تلك الكنيسة العظيمة حيث نعمنا برعاية وبركة وروحانية أبونا بيشوي كامل. وقد باركنا معاً بقيامه بمراسيم الأكليل المقدس هو وزميله في البركة والخدمة أبونا تادرس يعقوب. وكان ذلك يوم 7 يناير، أي يوم عيد ميلاد السيد المسيح. كما قام أبونا بيشوي كامل بعماد ابننا البكر في كنيستة باسبورتنج قبل هجرتنا من مصر. وللأسف لم تسنح لنا ظروف العمل وتكوين حياتنا بالمهجر أن نلتقي به خلال فترة وجوده بأمريكا.
*******
لم أرى ختاماً لمقالي أفضل من افتتاحية كلمة قداسة البابا شنودة الثالث فى الصلاة على جثمانه الطاهر:
"بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد أمين
يا أخوتي ما أصعب أن تتحول الحياة إلى قصة. وما أصعب أن المعلم يتحول فيه الصوت إلى صمت. وما أصعب أن إنساناً كنت تراه بنظرك بالعيان لا تعود تراه إلا بالإيمان. ولكننا بالإيمان لنا رأي آخر فى الموت وخصوصاً بالنسبة إلى أرواح معينة، هناك أشخاص يعيشون على الأرض ويقضون حياتهم وكأنهم لم يعيشوا، وهناك أشخاص يعيشون فترة فيحولون مجرى الأمور ويكون لهم تأثير فى كل أحد. وقد كان القمص بيشوي واحداً من هؤلاء؛ كان من الأرواح الكبيرة. من الطاقات الضخمة التى إستخدمها الله من بناء ملكوته.
مرت سنوات على الخدمة الروحية فى الاسكندرية ولكن عندما دخل هذا الإنسان فى الخدمة رأى الناس عملاً جديداً، وأسلوباً جديداً ما كانوا يعرفونه من قبل. بدأت خدمة روحانية من نوع خاص، أسلوب الخادم الذى يأخذ من الله ويعطي الناس، الشخص الذى لا يخدم من ذاته إنما يمتليء من الله لكي يفيض على الآخرين؛ وشعر الناس أن عملاً روحياً عميقاً قد بدأ فى هذه المدينة المحبة للمسيح كان للقمص بيشوي مجموعة من المواهب من الناحية العلمانية ومجموعة من المواهب من الناحية الروحية."
*******
ملحوظــة ختاميــةً:
عندما يكتب كاتب عن أعلام ومشاهير فمعظم ما يكتب هو تاريخ ونبذات ومعلومات كُتِبَت عنهم في مصادر شتى، يقوم الكاتب بربطها وتنقيحها وتنسيق سياق الأحداث وعرضها كوحدة متجانسة. أدرك أن المقال طويل رغم أني تجنبت ذكر أحداث وأعمال ومعجزات كثيرة لهؤلاء الأبرار. وقد أوجزت فيما اخترت ذكره ما استطعت، حتى وجدت أن في المزيد من الإيجاز بتراً لسيرتهم وإجحافاً لأعمالهم.
بركة صلواتهم وشفاعتهم فلتكن معنا ومع جميع أبنائهم ومحبيهم ومع شعوب العالم أجمع. آمين.