بقلم: نبيل المقدس
نحن الذين في أواخر الستينات وأوائل السبيعينات ممن يطلقون عليهم جيل الزمن الجميل .. هو الذي تحمل عواقب ما أحدثته ثورة 23 يوليو من تغيير في نظام الحُكم من دولة ملكية إلي دولة جمهورية لأول مرة منذ آلاف السنين .. وأتصور أن أسباب نجاح هذه الثورة كثيرة أهمها أن الشعب المصري في حينه كان معظمهم مثقفين حتي اننا كنا نفتخر بان ثقافتنا هذه مصدرها سور الأزبكية أيام مجده .. وكانت الطبقة الوسطي منتشرة في كل شبر من أرض الوطن .. والمعروف أن الطبقة الوسطي هي المعيّار الحقيقي لوجه الدولة امام العالم , وتظهر إن كان شعبها عالى التفكير أو متخلف .. فكلما إزداد حجم هذه الطبقة فهذا دليل علي الحضارة وسعيهم إلي الحرية والتقدم مهما إختلفت توجهاتهم وأفكارهم . ثاني سبب في نجاح هذه الثورة هو وجود قائد لها وأهداف واضحة كان الشعب المصري يحتاجها فعلا .. ومن كثرة ثقافته وقراءاته العديدة كان يعلم بالتقريب متي سيحدث هذا الطوفان والإنقلاب او ما أطلقنا عليها ثورة .. ثالثا وهو أهم عامل في النجاح هو هذه الوحدة والحب بين جميع طوائف الشعب حتي أكاد اقول أن في هذا الزمن لم يكن هناك ديانة خاصة نستطيع أن نميّز بها سمة هذا الشعب .. كل ما كان يُميّز الشعب هو أنه شعب مصري وأن الديانة الرسمية والتي يعتنقها الأكثرية هي الإسلام ..
كانت العلاقة بين الأديان الثلاثة علاقة طبيعية جدا غير مصطنعة أو نوع من الدعاية عن تسامح الأديان أو صور مزيفة عن علاقتهما الحميمة فيما بينهم .. كانت المحبة موجودة بين الشعب المصري بالفطرة وليس بالتعليم أو بالتمثيل , ولا أنسي تلك الدموع التي كانت تنهمر من عيون العائلات المصرية المسلمة والمسيحية عند وداعهم جيرانهم اليهود بعد حرب 56 .. لذلك استطيع أن اقول أن هذه الثورة كانت محظوظة بشعبها الأصيل الواحد .. ولولا حكمة شعبها وقبوله وإقتناعه بهذه الثورة لما كان لهذه الثورة ان ترى النور مثلما يحدث الآن بما يُقال عليها كذبا وبهتانا ثورة 25 يناير ..... فما زال الشعب يرفض عواقبها ..!
أنا عن نفسي لم أري أنني كنت أعيش عيشة مُرة طيلة الستين سنة الأخيرة والمحصورة ما بعد 23 يوليو 52 و ما قبل 25 يناير 2011 .. بالرغم من ظهور مشاكل كثيرة اقتصادية وسياسية خارجية .. لكن إحتفظنا بحرياتنا الشخصية . ولم تتخذ هذه القيادات التي مرت علينا طيلة هذه السنوات اي نوع من الضغوط أو ما يسمونها الفزاعات الدينية للأقلية بإستثناء العشر سنوات الأخيرة من حكم آخر رئيس , حيث بدأ يتودد للخلايا المتطرفة لكي يساندوه في توريث الحكم لإبنه , وبدأ يمنحهم قليل من المزايا السياسية .. لكن لم تأتي الرياح بما تشتهيه السفن فقد وجد معارضة شديدة جدا ضد القوي المدنية بجميع طوائفها وأنواعها .. و ما يدهشني أن أكثر الذين يتضررون من عواقب هذه الثورة الكاذبة هي الكتلة الشعبية المدنية والتي هي السبب في مجيء هذا الحكم الفاشي .. بالرغم من نصائح وتنبيهات جيلنا المخضرم لهم منذ بداية الإستفتاء المشئوم يوم 19 مارس 2011 ( وبالمناسبة كل وكسة واحنا طيبين .. فقد مرت سنتان علي هذا اليوم المشئوم ) .. وبدأ عناد وجهل هذه التكتلات المدنية وعدم الإلتفات لبعض من نصائح الكبار والذين هم في الأصل يتابعون الموقف منذ عهد فاروق حتي هذا اليوم المشئوم الذي أتي بنا إلي هذه الحالة السيئة .
الآن وبعد ما قضيت عمري كله تقريبا من صباي إلي بداية الشيخوخة مارا بمرحلتي الشباب والرجولة , قضيتها في عزة وحرية وانتصارات , ومشاركة في كثير من المشروعات القومية وكذلك خاض اغلبنا الكثير من الحروب والمعارك .. وضاع منا خيرة الشباب .. أجد نفسي مرة واحدة اعيش في بلدة هي ليست مصر .. بعد ما كنا نسمع عن تلك البلدان التي تعيش عيشة الحيوانات في الغابة ونندهش ونتعجب علي أحوالها .. وكنت لا أتصور ابدا انه سوف يأتي الدور علي مصر بالرغم أن مواصفاتها وسماتها لا تسمح بوجود هذه الفوضي ... اصبحنا بلا رئيس .. أصبحنا بلا حكومة .. أصبحنا بلا أمن .. أصبحنا بلا دولة .. أصبحنا بلا ( شعب ) .
نحن هذا الجيل نشعر تماما الفرق بين الحال ما قبل 25 يناير 2011 وما بعدها .. ربما كانت هناك أخطاء .. لكن كرامة الإنسان المصري كانت مُصانة .. والذى يقول غير ذلك فهو لا يقول الحقيقة .. انا لا أدافع عن رئيس كان منفيا او مات موتة ربنا او مغتالا أو مخلوعا .. بل أنا أتحدث عن التغيير الذي حدث في الشعب المصري نفسه .. كنت لا اتصور أن الديانة تقسم الشعب إلي جزئين .. جزء إسلامي وجزء كافر ليبرالي . جيلنا لا يهمه أي فصيل يحكم البلاد .. لكن الذي يهمه فقط هو حريته وحرية أولاده .. وسلامته وسلامة أبنائه ... وأخيرا كرامة مصــر بين جميع الأمم.
الشعب المصري لا يمكن أن يقبل هذه الهوجة الجديدة أو الفزاعة المبتكرة وهي إجراءات الظبطية القضائية .. لأن مواصفات هذا الشعب يختلف تماما عن شعوب متأخرة ربما تقبل علي نفسها هذه الأهانات .. الشعب المصري هو خط أحمر , ويجب أن يعلم الموجودين حاليا في الحكم أن الشعب المصري هو الذي إخترع لنفسه هذا الإجراء وكان يستغله كنوع من الشهامة والنخوة ضد اللصوص والحرامية ... كان البند 37 لسنة 50 من البنود المحترمة .. ومن نظافة وطهارة الشعب لم يستغلها الإستغلال الذي به يخدم ويصون حاكمه.
وبمناسبة الظبطية القضائية .. ولكي أوضح أهدافها الحقيقي أقص عليكم هذه الحدث الذي حصل لي عندما كنت ادرس فى جمهورية المجر الشعبية سنة 1970 .. كنت سائرا في طريقي إلي الكلية , وكعادتي كنت أتخذ شارع ضيق يوفر لي الكثير من الوقت .. وفي إحدي المرات وجدت مَنْ يمسكني بذراعي بشدة ويشدني .. وإذ أجد إمرأة عجوز تشاور لي علي عقب سيجارة كنت قد ألقيتها علي الرصيف .. وتأمرني وكأنها جنرال في البوليس المجري أن أذهب إلي مكان عقب السيجارة ثم اعبر الشارع لكي ألقيها في سلة المهملات المعلقة علي إحدي الأعمدة .. وإذ بي ألتفت ورائي بعد ما ألقيت عقب السيجارة وأجدها ما تزال تقف في مكانها حتي تطمئن أنني ألقيت بعقب السيجارة في السلة ... هذا هو مفهوم الظبطية القضائية عند الشعوب المتحضرة .. لكن شر البلية ما يُضحك أجدها تمر علي شاب وشابة متعانقين " وهات قبلات لبعضهما البعض " لكنها لم تلتفت إليهما ... ضحكت في نفسي ... وقلت صبحانك يا ربي. !!!
مرة واحدة وجدت نفسي لست في بلدي مصري .. الشعب تغير .. اسلوبه تغير .. كلامه تغير .. لكن وجدت إلهي ما يزال موجودا .. أسرعت إليه وسبحت له :
مالناش غيرك إنت...... إلهنــــــا الحى بنترجاك
جايين ناحيـة قلبك...... بابا الكل امنحنــا صلاة
*****
رافعين قلوبنا ليك ..... يا فاتح لنا باب الرحمة
ندخل نقبـــــل ايديك ..... الممدودة لنا بحـــــياة