بقلم إسماعيل حسني
إذا كان وعد بلفور بإعطاء أرض فلسطين لليهود وصمة عار لا تمحوها السنون في جبين من أصدره لأنه أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق، فإن وعد الرئيس مرسي بإعطاء حلايب وشلاتين للسودان وصمة لا تقل عارا، حيث أعطى الرئيس فيه أيضا ما لا يملك لمن لا يستحق.
إلا أن الفارق الكبير والخطير بين الوعدين أن وعد بلفور قد صدر عن عقلية استعمارية حديثة تعرف قيمة الوطن وقدسيته، فاستحلت لنفسها انتزاع أرض من شعبها من أجل إقامة وطن لشعب آخر حليف لها، بينما وعد مرسي قد صدر عن عقلية دينية قديمة لا تعرف للوطن قيمة أو قدسية، ولا تجد غضاضة في التنازل عن جزء من وطنها مقابل مصلحة كبرت أو صغرت.
ولم يشكل هذا الوعد صدمة لنا أو غيرنا من العارفين بأيديولوجية جماعات الإسلام السياسي، بل نتوقع أن تتلوه وعودا أخرى مشابهة في سيناء وربما في الصحراء الغربية، فهذه الأيديولوجية لا ترى في الوطن سوى مساحة جغرافية، ولا تتورع عن التصرف فيها بالبيع والشراء شأنها شأن الأصول الثابتة والمنقولة التي قد يمتلكها الإنسان.
ولقد أبدع قادة هذا التيار ومشايخه في الاستهانة بقيمة الوطن والحط من قدره في أذهان أتباعهم، وقاموا باعتساف تناقض مزيف بين الولاء لله والولاء للوطن من أجل الترويج لوطن وهمي يسمونه الإسلام لكي يحتكروا فيه السلطة والثروة باعتبارهم سدنة الدين.
يقول حسن البنا: "إننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية". ثم ينسف يوسف القرضاوي مفهوم المواطنة من أساسه فيقول: "إن المواطنة هي رابطة تراب وطين ولا تعلوا أبدا على رابطة الدين، وأنه ليس بمجتمع مسلم الذي تتقدم فيه العصبية الوطنية على الأخوة الإسلامية، والنعرة الوطنية حدثت بتشجيع الاستعمار الغربي ليحل الوطن محل الدين، ويكون الولاء للوطن وليس لله، وأن يموتوا في سبيل الوطن وليس في سبيل الله، بينما الصحيح أن يضحي الإنسان بنفسه من أجل دينه، وأن يضحي بوطنه من أجل دينه".
إلا أن أبلغ من عبر عن موقف الإسلاميين المعادي لفكرة الوطنية ومبدأ المواطنة هو مرشد الإخوان السابق مهدي عاكف الذي وضعها ناصعة البياض بقوله "طز في مصر واللي في مصر واللي جابو مصر".
ولقد أدى عبث المشايخ بقيمة الوطن ومفهوم المواطنة في عقول الشباب إلى اضمحلال الشعور الوطني، وإضعاف الإحساس بالانتماء للوطن، وتناقض الكثير من التشريعات والممارسات الاجتماعية مع مبدأ المواطنة، مما أدى بدوره إلى استشراء الفساد والرشوة والمحسوبية وضعف الإنتاجية وتأخر المجتمع في جميع المجالات.
كما أدى هذا العبث إلى سهولة الإيقاع بأبناء الوطن في شرك التآمر ضد سلامة واستقرار أوطانهم تحت شعارات دينية زائفة كما رأينا في مصر واليمن وغزة وسوريا ودولة الإمارات العربية المتحدة.
إن قيمة الوطن التي عرفتها الإنسانية بعد ملايين السنين من الضياع والتشرد والبداوة، لا يمكن أن يدركها من يتخذ البداوة دينا، ومن يعلي الانتماءات البدائية، عرقية كانت أو دينية، على الانتماء الوطني الجامع. لك الله يا مصر.