الخميس ١٨ ابريل ٢٠١٣ -
٥٩:
٠٧ ص +02:00 EET
بقلم إسماعيل حسني
مع خروج تيار الإسلام السياسي من كهوف العمل السري إلى ميادين العمل العام عقب اندلاع الثورات العربية ثم وصوله إلى السلطة بزعامة جماعة الإخوان المسلمين، استدعت ممارسات وأفكار فصائل هذا التيار أسئلة هامة حول قدرة هذا التيار على التأقلم مع متطلبات الحياة المدنية الحديثة.
ومع تصاعد استخدام الإسلاميين لوسائل لا أخلاقية أو إجرامية في العراك السياسي من عنف وقتل وتزوير وتكفير وكذب ومراوغة ثم تبرير هذه الجرائم بشعارات ونصوص دينية، تصاعدت حدة التساؤلات لتصل بالبعض إلى التساؤل عما إذا كانت المشكلة تكمن في الدين ذاته باعتباره النقطة أو المرجعية التي ينطلق منها هؤلاء؟ وهو ما يؤكد ما توقعناه أن الأثر المباشر لتسلط الإسلام السياسي على الناس باسم الدين سيكون انتشار الإلحاد كرد فعل احتجاجي وتعبير عن رفض الناس للسياف وللسيف الذي يرهبهم به في آن واحد.
ففي مناقشة ثرية على صفحتي في الفيس بوك ذهب عدد كبير من الأصدقاء إلى أن الدين هو أسوأ ما توصلت إليه الإنسانية في تاريخها الطويل، وأن البشرية لن تستطيع إيقاف ما يرتكب باسم الدين من جرائم إلا بالقضاء على فكرة الدين ذاتها، واعتبارها من مخلفات عصور الظلام، وذهب آخرون إلى أن المشكلة لا تكمن في الدين بل في من يتاجرون به للإستيلاء على السلطة والثروة في المجتمعات.
ونحن نرى أن أسوأ ما توصلت إليه الإنسانية ليس الدين في حد ذاته لما له من آثار إيجابية عديدة في حياة الإنسان، ولكن الأسوأ هو ما يلحق بالدين عادة من تكفير للآخر، وهو السم القاتل الذي ابتدعه الفرعون المصري المارق "إخناتون" حين دعا لعبادة "آتون" وأفسد التعددية السمحة للديانة المصرية القديمة "آمون"، ذلك السم الذي انتقل إلى الديانات الإبراهيمية الثلاثة التي أصبح الكهنوت فيها يحتمي بالتكفير لزيادة عدد المؤمنين به ولإجهاض محاولات الإجتهاد والتجديد في الفكر الديني.
وتقتضي النظرة الموضوعية هنا أن ننظر إلى الأمر من زواياه المختلفة، فالدين من ناحية يلبي حاجات ضرورية لقطاع كبير وربما يكون القطاع الأكبر من البشر، فهو يعفي الإنسان من مشقة البحث عن إجابات عن الأسئلة الوجودية الكبرى في حياته بما يقدمه له من إجابات جاهزة وسهلة ومريحة، ومن ثم فهو يقدم للإنسان السكينة والطمأنينة والحماية. كذلك فالدين يقدم للإنسان الوازع أو الدافع الخارجي لفعل الخير حين تعجز قدراته العقلية أو أساليب التربية السائدة عن تنمية دوافع ذاتية تدفع الإنسان لفعل الخير وتجنب الشرور التي تعكر صفو المجتمعات. وفوق هذا وذاك فالدين يحمي الإنسان من الفناء ويقدم له الخلود.
إلا اننا من ناحية أخرى لا نستطيع أن نجادل في حقيقة أن الأديان لا تجمع البشر، بل تفرق بينهم إلى أديان ومذاهب تعيش في حالة أبدية من التنافس والصراع بل والإحتراب. ذلك أن البشر منذ فجر التاريخ يتصارعون حول أربعة مسائل رئيسية هي الثروة والسلطة والجنس والدين، ولما كانت المسائل الثلاثة الأولى نسبية وتقبل القسمة فقد تمكنت المجتمعات البشرية دائما من حسم الخلافات حولها ولو إلى حين عن طريق قسمتها بين الأطراف المتنازعة، بينما الصراع الديني إذ يدور حول مطلق لا يقبل القسمة فهو يستمر إلى الأبد وتدفع فيه البشرية من دمائها وتطورها أفدح الأثمان.
هذا بالإضافة إلى أن ما تفيض به الأديان من آيات الرحمة وأدوات المغفرة ينجح في اجتذاب الناس لهذه الأديان ولكنه يعجز في كثير من الأحيان عن ردعهم عن ارتكاب جرائم يندى لها الجبين، إذ يقوم المتدينون بتأويل النصوص الدينية (وهي بطبيعتها الأدبية المطاطة قابلة للتأويل على عدة وجوه) بما يسوغ لهم ارتكاب جرائمهم دون أن يجفل لهم جفن، وفي كثير من الأحيان يقومون بتحويل هذه الجرائم إلى أعمال تعبدية يتقربون بها إلى الله، كما رأينا من المتدينين من جميع الملل عبر العصور، وكما نرى منهم اليوم في بلادنا.
وعلى ذلك، فإذا كان الدين بما له من إيجابيات وسلبيات باق بيننا لأنه يلبي حاجات بشرية لن تختفي في الأجل المنظور، فإن محاولة القضاء على فكرة الدين عملية عبثية تفتقد إلى المعايير الموضوعية التي يمكن أن تتحول بها إلى إطار استراتيجي لأي تحرك عقلاني يستهدف تحسين ظروف الحياة على كوكب الأرض.
إن الحل الأمثل لمشكلة الدين يتمثل في نظام يضمن تعظيم إيجابيات الدين والحد من سلبياته، نظام يفتح بيوت الله أمام المؤمنين، ويمنع استغلالها بواسطة الأدعياء من تجار الدين. نظام يحفظ لنا الدين والدنيا ولا يجبرنا على الإختيار بينهما. هذا النظام يتلخص في كلمة واحدة أضاء نورها كافة أرجاء الكون عدا بعض الجزر القليلة التي لا تزال مظلمة ومنها بلادنا. هذا النظام هو "العلمانية".