بقلم : أحمد لاشين أكاديمي وكاتب مصري
ثمة تاريخ طويل من التنافس التركي - الإيراني، أو الصفوي – العثماني، كما يحلو للبعض وصفه، رغم تجاوز تلك المرحلة التاريخية لصالح واقع أكثر تعقيدا وغموضا. وقد تتعارض المصالح بين الجانبين، لكنها دائما ما تنتهي بتسوية ترضي الجميع.
وعلى الرغم مما يظهر على السطح من خلافات سياسية بين طهران وأنقرة بسبب تداعيات الأزمة السورية، وما تتضمنه من تشابكات معقدة قد تشي بتأزم الوضع الإيراني - التركي، بوصف إيران وتركيا لاعبين أساسيين على الساحة السورية، فإنه من الصعب اعتبار الملف السوري هو المفصل التاريخي الذي ستتغير بعده العلاقات بين البلدين. ذلك العمق الاستراتيجي والبعد الاقتصادي يشكلان عاملين أكثر عمقا وتأثيرا في مواطن صنع القرار بين البلدين، بعيدا عن التنافس السياسي.
دعونا نناقش القضية بشكل أكثر تفصيلا...
حجم الاستثمارات التركية - الإيرانية، وصل خلال العام الماضي 2012 فقط إلى ما يقارب 20 مليار دولار أميركي، ونحن هنا نتحدث عن دولة عليها عقوبات اقتصادية دولية مثل إيران. ولكن دائما ما تتمكن تركيا من نيل الرضا الغربي، والحصول على إعفاء خاص لواردات النفط الإيراني على سبيل المثال، الذي وصل حجم الاستيراد التركي اليومي نحو 100 ألف برميل من النفط الإيراني، ما يساهم في تخفيف عبء النفط المتدفق من مصافي إيران دون جهات مباشرة لتصريفه. والأهم تصريح لجواد أوجي، المدير التنفيذي لشركة الغاز الإيرانية الوطنية، على وكالة مهر الإيرانية، بأن الغاز الإيراني سوف يُصدر من حقل فارس الجنوبي إلى أوروبا عبر الأراضي التركية.
بعيدا عن تفصيلية الأرقام وجمودها فإن دلالتها الاقتصادية - السياسية أكثر عمقا، إذ من المستحيل أن تحاول إيران خسارة تركيا، في الوقت الذي تُعتبر فيه تركيا الحديقة الخلفية للاقتصاد الإيراني، على الأقل في ملف تصدير المواد البترولية، وخاصة الغاز الذي يمثل مصدر دخل قومي في إيران يصل إلى 10 مليارات دولار سنويا حسب تصريحات جواد أوجي.
أما ما يخص الجانب الاستراتيجي، فالقضية أكثر تعقيدا. إيران تملك الكثير في قضية الأكراد على الحدود السورية التركية، كورقة للعب تضغط بها على أنقرة وقت الحاجة. ومحاولات أردوغان الأخيرة للتصالح مع حزب العمال الكردستاني، تهدف إلى رفع اليد الإيرانية الضاغطة في هذا الملف. مع الوضع في الاعتبار الصراع الخفي بين إيران وتركيا في العراق، خاصة الأكراد، ومحاولة كلتا الدولتين فرض نفوذهما على دولة تعاني التفكك كالعراق، يمكننا القول: إن سوريا ليست هي النافذة الوحيدة التي نحاكم من خلالها العلاقات التركية الإيرانية.
والأهم والأخطر من وجهة نظري، هو الجانب الإقليمي العربي، الذي شكل مساحة أوسع من التنافس الإيراني التركي. بعد الثورات العربية حاولت الدولتان كلاهما أن تطرح نفسها كمخلّص من حالة الفوضى والميوعة السياسية التي دبّت في العالم العربي. فهرولت كل من إيران وتركيا لخطب ود الأنظمة الإسلامية «الإخوانية» التي وصلت إلى سدة الحكم في دول «الربيع العربي». والتي أدركت، بطبيعة الحال، أن حلقة «الحكم الإسلامي» لن تكتمل إلا بتسوية الوضع المتأزم في سوريا، ولن يتحقق ذلك إلا من خلال مفاتيح اللعب الإيرانية والتركية، ومن خلفهما الكتلتان الغربية والشرقية على اختلاف المصالح. وبالتالي ستمثل أنظمة الحكم الجديدة حلقة الوصل الرئيسية بين اللاعبين الكبيرين على الساحة السورية.
وفي تصريح للسفير التركي في إيران لجريدة «شرق» الإيرانية، جاء القول: «إن الأزمة السورية لن تحل إلا بواسطة إيران وتركيا، وسيكون من الصعب استبعاد إيران من المعادلة السورية إن شئنا الحل».
ورغم الإلحاح الروسي والألماني على وجود إيران في مفاوضات «جنيف 2»، والإصرار الفرنسي على استبعاد إيران، فإن إيران ومن خلفها «الدب الروسي» - الذي يسعى لتثبيت آخر مخالبه في الشرق الأوسط من خلال نظام الأسد - يشكلان الرقم الصعب في مسيرة المفاوضات الجديدة. ويبدو أن لتركيا وجهة النظر نفسها حتى بعد زيارة رئيس حكومتها رجب طيب أردوغان الأخيرة للولايات المتحدة، ما يدل على أن تركيا ما زالت تعتبر إيران لاعبا أصيلا في المنطقة.. يصعب نفيه أو الاصطدام به، على الأقل، في المرحلة الراهنة.
إن «سوريا الأسد» على أهميتها الجيو-سياسية بالنسبة لإيران ذات النظرة التوسّعية، التي تعتبرها امتدادا إقليمي لحدودها، ومعبرا إلى جنوب لبنان، وحزب الله - الذراع العسكرية الإيرانية - إلا أنها قادرة على التعامل مع أي نظام جديد يصل إلى سوريا إذا سقط بشار خاصة إن كان إسلاميا، كما تعاملت مع إخوان مصر أو تونس، بشرط ضمان مصالحها.
هذه السّمة نفسها متوافرة لدى تركيا.
إن النظامين الإيراني والتركي قد يرقصان سويّا على الدماء السورية، ولفترة طويلة طالما ظلت المصالح متشابكة. وبالتالي، وفي ظل الظرف التاريخي الحالي لن تغامر طهران أو أنقرة بتصعيد حدّة الخلاف بينهما بسبب الملف السوري، فسوريا ليست رقعة الشطرنج الأخيرة بين اللاعبين الإقليميين الكبيرين.
الشرق الأوسط الدولية