بقلم: كمال زاخر موسى | الأحد ٢٦ مايو ٢٠١٣ -
٠٠:
٠٧ م +02:00 EET
هل هي مناوشات مراهقة سياسية لبعض أطياف وافدة على المشهد السياسي لم تشب عن الطوق؟ أم هي تفعيل لرؤية منضبطة تشق طريقها لتحقق حلم النقاء العرقي والديني، الحلم الأثير الذي يداعب عيونًا ما زال النوم المعرفي يداعب جفونها تعيش قطيعة حضارية فادحة؟ أم هي جزء من مخطط عولمي -بأياد متطرفة- استقر على وجوبية تفتيت المنطقة لإحكام السيطرة عليها، ونقل مركز المواجهات التي تؤكدها نظريات صدام الحضارات أو الثقافات -بحسب طرح صمويل هنتجتون- إلى خارج سياجات الغرب بجملته، لتستقر على أرضنا وتستبيح فضاءنا السياسي والثقافي، وتحولنا إلى حطب في محرقة الصراع الاستخباراتي، في طور جديد لدورة حياة استعمارية تحكم السيطرة على مقدراتنا؟
فجأة تقفز تهمة ازدراء الأديان إلى صدارة المشهد، تتسقط كلمة أو إيماءة أو غضبة أو فعلاً ما، وإن لم تجدها تفتعلها؛ لتقذف بمن أتاها أو ألصقت به إلى محاكم تفتيش مدعومة بنشوة شارع محبط، يبحث عن بديل لصدمة تفريغ ثورته ومفارقة الواقع لطموحاتها تقف إدارة إمكاناته عاجزة عن تحقيقها، قصورًا أو فشلاً أو فراغًا أو إصرارًا على الاستحواذ، ويتطور الأمر ليمتد إلى ملاحقة المرأة استنادًا إلى وشايات تفرزها صراعات العمل، والدفع بأطفال لم يتحصلوا على أهلية التقاضي للتقول على مدرسيهم، ولا يراجع أحد وكيل النيابة أو مديرها، صاحب قرار تحريك الدعوى، بالمخالفة للقانون وإغفال شهادات شهود النفي الموثقة، ولا يحمي أحد المحكمة من جحافل المحاصرين لها من المتطرفين والمغرر بهم، في ترهيب يسعى للتأثير على سير العدالة، كما في حالة الشابة المصرية "دميانة عبيد" معلمة الأقصر، ويقف الأمن بعيدًا، وربما لا يأتى مطلقًا، وتجد الأقلية الدينية نفسها محاصرة بدوائر متتالية، بين التحقير عبر آليات التواصل بين الفضائيات وشبكة المعلومات، برسائل ملغومة منتشية تشوه معتقداتها، من بالغين يتوجب ملاحقتهم قضائيًّا،
وبين إطلاق معلومات مضللة تفتقر للدقة والمصداقية، تؤكد أن هذه الأقلية عدديًّا تمثل نسبة تقترب من الصفر قياسًا على التعداد العام، فيتضاءل حقها في المشاركة في وضع وثيقة الدستور، وإن اشتركت فعليها أن تقبل ما تمليه الأغلبية، وربما يمتد الأمر إلى إبطال المطالبات بحقوق توفير مقار للعبادة أو مكان في دولاب الوظائف في مواقع بعينها، وغير بعيد إشاعة روح الانكسار والهزيمة بين شبابها، وتتوالى دوائر الضغط لتصل إلى التضييق على دور عبادتها غلقًا إداريًّا وأمنيًّا أو هدمًا وتخريبًا من حشود وقر في ذهنهم أنها دور كفر وشرك، وتتحول هذه الأفعال المجرَّمة قانونًا إلى ورقة للمساومة يتحول فيها المجني عليه إلى جانٍ، أو يقبل راضخًا بقرارات آليات الحلول العرفية، ويضيع الحق وتتوزع دماء الضحية بين قبائل المتطرفين ومتنفذيهم، وتولد دائرة التهجير القسري بحجة الحماية من خطر قائم وقادم، أو للتمهيد لإقامة إمارة تعتمد في قيامها على نقاء العرق والدين، في استعراض قوة يكسر أنف السلطة ويتحداها وأحيانًا بتوافق ما. ويمتد منها حال نجاحها إلى مزيد من التفريغ، تمتد من سيناء إلى الوادي، إلى صعيد مصر حيث ارتفاع نسبة الكثافة القبطية.
اللافت ذلك التسارع الذي يختصر المسافة بين الإبلاغ عن واقعة الازدراء المزعومة وغير الموصفة قانونًا، وبين الحكم على المتهم بها إلى أسابيع وربما أيام، رغم رتابة إيقاع العدالة في قضايا أخرى يمتد بها الأجل إلى شهور وسنوات، وفي قضايا أخرى تتوه الأوراق في تلك الرحلة حتى تختلط بأوراق مصنوعة تضلل العدالة بحنكة البيروقراطية العتيدة والغرض والهوى، بعد أن يدس طرف خفى أنفه في دهاليز أروقتها.
ودائمًا تأتى التبريرات معلبة وسابقة التجهيز تروج لكونها حوادث فردية وغير ممنهجة، وأن ما يعانيه الأقباط -إن كانت هناك معاناة بالأساس معترف بها- لا ترقى للاضطهاد، بل هي منتج اجتماعي تراكمي، بل هناك من يرى أن الأقباط يعيشون أزهى عصورهم، حتى يخال من يقرأ التصريحات الوردية من خارج أن العصر الذهبي والنعيم الذي هم فيه مقيمون يمتد من عبد الناصر إلى اللحظة مرورًا بالسادات ومبارك، ويتأكد لديه هذا المعنى عندما يخرج علينا البعض مطالبين بأن يتساوى المسلمون مع المسيحيين في حالة الرفاه التي تغشاهم.
وعندما تتواتر الأخبار بشكل يومي حاملة لنا همة متعقبي حالات الازدراء المتوهمة ومبادرتهم بتقديمهم إلى النيابة العامة التي تسارع بتقديمهم محبوسين إلى المحكمة والتي لا تتوانى في تحديد جلسة بعد أيام معدودات -معلمة الأقصر دميانة عبيد نموذجًا- وبنفس السرعة تصدر بحقهم أحكام رادعة، ولا نجد نفس الهمة مع المحسوبين على الإسلاميين الذين يرتكبون فعل الازدراء الفاضح علنًا، وعلى رءوس الأشهاد وأمام عيون الإعلام والفضائيات، ولا يلتفت إليهم ولو بلوم، وعندما يزداد الضغط الشعبي أو الحقوقي يتم التحقيق معهم -أبو إسلام نموذجًا- ويصرفون من سرايا النيابة ويقدمون لمحاكمة تكتشف أن الوقت متسع للتأجيل والمماطلة، وفي مفارقة للمنطق والعقل يطلب الدفاع شهادة الأزهر حول طبيعة السيد المسيح من كونه إلهًا، ليشتت العدالة في قضية شديدة الخلافية، محلها أروقة مقارنة الأديان وليس المحكمة، بعد أن أُسقط في يده، وصارت الإدانة قاب قوسين أو أدنى منه، ويتحدى صاحبنا مجددًا النسق القضائي، ويتوعد بمزيد من التصعيد لو مسه سوء بحكم مقيد لحريته، ثم يسألونك عن العدالة المعصوبة العينين ويداها ممدودتان بميزان على خط واحد ويقف المتقاضون حولها على مسافة واحدة.
عندها يكون السؤال: هل نحن أمام إعادة انتاج لنسق المكارثية (McCarthyism)، التى استشرت في الولايات المتحدة في بدايات النصف الثاني من القرن المنصرم وتحديدًا عام 1950 بدعوة من جوزيف مكارثي، وكان عضوًا متقدمًا بمجلس الشيوخ الأمريكي -أحد غرفتي الكونجرس-آنذاك، ويرأس إحدى اللجان الفرعية بالمجلس، كان همه مطاردة من يعتنق الشيوعية في إطار الحرب الباردة (1944- 1990)، التي استعرت بين حلفاء الأمس -الولايات المتحدة والاتحاد السوفيت- بعد أن اختلفا في إدارة مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وقاد حملة شرسة لتعقب الكثيرين بتهمة اعتناق الشيوعية بتهمة العمل لحساب السوفييت في الدولاب الحكومي وفي المجتمع، وشهدت أمريكا ظاهرة إرهاب كارثية، حتى صار المصطلح معبرًا عن كل حالات الإرهاب السياسي، أو الإقصاء والتجريم بسبب التمايزات العرقية والدينية والثقافية، ومن اللافت أن مجلس الشيوخ الأمريكي بعد أربع سنوات اكتشف خطورة هذه الموجة وتصدى لها وجرمها.
فهل ما يحدث بيننا هو تمصير للمكارثية؟ وهل يمكن في مناخ الارتباك تحمل كلفة هذا التوجه؟ وهل نملك رفاهية المراهنة على وحدة التراب المصري وبقاء الاندماج الوطني؟، وهل ما يحدث منبت الصلة بخرائط التقسيم المطروحة علناً؟
هل نحن إزاء سعي لمطاردة الأقباط ودفعهم للتهجير القسري؟ وعند البعض إبادة حثيثة ومتوارية.
أخشى أن تكون هذه المشاهد هي الجزء الظاهر من لغم عائم في بحرنا، زرع ونحن نيام، والقادمون الجدد عنه غافلون، أو منشغلون بالسيطرة على مفاصل الدولة، أو ربما كما يردد البعض هي جزء من توجههم فهل من نوبة "صحيان"؟، وهل من تدارك وتصحيح عوار اللحظة؟ وهل من تصحيح تشريعي يغل أيدي المتطرفين وأعداء التعدد والاندماج والبقاء المصري من العبث بمقدرات الوطن؟.
نقلا عن البوابة نيوز
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع