فى عام 1933 كتب أمير الشعراء أحمد شوقى كلمات يناجى بها النيل ليغنيها محمد عبدالوهاب فى فيلمه الوردة البيضا، وتقول الكلمات: النيل نجاشى.. حليوة أسمر.. عجب للونه دهب ومرمر أرغوله فى إيده.. يسبح لسيده.. حياة بلدنا.. يارب ديمه.
أحمد شوقى لم يكن فقط يغازل النيل ولكنه كان يقر واقعاً بأن النيل نجاشى الأصل أى إثيوبى، فهى معلومة أحياناً ننساها أن منابع النيل وأصله يأتى لنا من إثيوبيا، ولكن ها هى تأتى الأيام علينا لتذكرنا غصباً بأن النيل نجاشى، وأن هناك خوفا من أن يروح ولا يجيشى.
أنا مثلك مواطنة مصرية غير خبيرة فى شؤون المياه والرى ولكنى فقط منذ ولدت أعرف أن مصر هبة النيل، وأن اللى يشرب من مية النيل لازم يعود، وأننا نسيىء للنيل بكثير من الجهل وكثير من الإهمال، وأننى حين أفرح أذهب للنيل، وحين أحزن أيضاً أذهب له، فأنا مثلك ومثل ملايين هذا البلد ضفاف النيل وصفحة مائه هى سلوانا وهى أيضاً التى تسد عطشنا، ولكن زمن الأغانى والرومانسيات تجاه النيل يبدو أنه قد ولى، فعلينا الآن أن نتعامل معه بواقعية وبعلم ومعلومات، ونطالب كل ذى شأن بأن يطلعنا على مستقبل شربة المياه ولقمة العيش لنا ولأبنائنا وأحفادنا.
ودعنى أضع أمامك أيها القارئ بعضا من الحقائق التى جمعتها كمواطنة مصرية تريد أن تعرف بعض من مستقبل نيلنا، وما الذى فعلناه كشعب ودولة وما الذى لم نفعله.
1 - حقائق تاريخية: يقع نهر النيل داخل 9 دول هى بورندى ورواندا وزائير وتنزانيا وأوغندا وكينيا وإثيوبيا والسودان ومصر، والاتفاقية الوحيدة التى تم بموجبها الاتفاق بين مصر دولة المصب وإثيوبيا دولة المنبع على توزيع حصة النيل، كانت عام 1902 وقد وقع عن مصر بريطانيا وعن إثيوبيا إيطاليا الدولتين اللتين كانتا تستعمران المنطقتين، وهو ما يدفع إثيوبيا بين الحين والآخر تاريخيا للتلكك تجاه هذه الاتفاقية، باعتبار أن مستعمرها هو الذى وقع عليها وهى الآن حرة، تاريخياً أيضاً قامت بين مصر وإثيوبيا صراعات حول ماء النهر فمثلاً يوحنا الرابع هدد الخديوى إسماعيل بتحويل مياه النهر، مما دفعه لإرسال حملة عسكرية عليها، وحين كان الملك فؤاد سلطاناً على مصر حدث تهديد أيضاً، وإثيوبيا ترفض الاعتراف والالتزام بالاتفاقية التى تم توقيعها بين مصر والسودان عام 1959 وتعتبر أنها ليست طرفاً فيها وبالتالى غير ملزمة لها.
2 - حقائق حاضرة: فى تقرير لمركز معلومات مجلس الوزراء يقول إن حصة مصر الآن من نهر النيل هى 55.5 مليار متر مكعب، وأنها ستحتاج بحلول 2017 إلى 86.2 مليار متر مكعب، وأن مصر تدخل تحت خط الفقر المائى، حيث إن خط الفقر للفرد فيما يخص المياه يبدأ بأن يكون نصيب الفرد 1000 متر مكعب سنوياً، وفى مصر حاليا نصيب الفرد 860 مترا مكعبا سنوياً، هذا على فرض أن نصيب مصر فى ماء النيل ظل كما هو ولم ينقص، فما بال لو نقص وهو المتوقع بعد أن شرعت إثيوبيا فى تحويل مجرى نهر النيل الأزرق فعلياً منذ أيام.
أعلنت إثيوبيا قبل أسابيع من بداية تحويل مجرى النهر أنها أرست بالأمر المباشر مهمة بعض أعمال السد لشركة إسرائيلية، ومن المعروف أن إسرائيل قد اتجهت لأفريقيا منذ سنوات تؤسس لعلاقات تجارية وسياسية، ويبدو أنها بدأت تجنى ثمار هذا العمل الدؤوب، كما أن من المعروف أن موازين القوى فى أفريقيا فى طريقها للتغيير بشكل مرتب له من قِبل الغرب الذى قرر أن تكون إثيوبيا وكينيا وروندا وأوغندا هى محور القوة الأفريقية فى الطاقة، وبالتالى اقتصاديا وبالتبعية سياسياً. ومن الحقائق الحاضرة أيضاً أن كثيرا من الدول التى لها فائض اقتصادى مثل الصين ودول الخليج كقطر والإمارات اتجهت للاستثمار فى دول أفريقيا الواعدة.
3 - حقائق حول الماء والسياسة: عشرات بل مئات من الدراسات والكتب والدوريات تكتب منذ زمن أن الحروب المقبلة فى تاريخ البشرية ستكون حروب الماء أو حروبا حول منابع الماء، وأن القارة الأفريقية من أكثر القارات المعرضة لمثل هذا النوع من الحروب، ومن العبث أن نجلس الآن فى هذا البلد ننعى حظنا على نظام مبارك الذى فعل كذا وكذا وأهمل القارة الأفريقية عمق مصر، فما أسهل أن نتباكى على اللبن المسكوب وما أصعب أن نلحق بما بقى من لبن فى الكوب.
بعد أسابيع من خلع مبارك كانت الهمم ناشطة للعمل العام الجماعى، فقرر وفد شعبى من بعض السياسيين والشخصيات العامة أن يتجهوا إلى إثيوبيا فى زيارة شعبية لإثبات حسن النوايا لبلد النجاشى، والمطالبة بالعودة لمائدة المفاوضات، وهو تصرف مسؤول محمود ولكن الجهل بالقضية وأبعادها تسبب بقصد أو دون قصد لتعقيدها، ففى ذلك الوقت كان زيناوى رئيس وزراء إثيوبيا الماكر حيا لم يمت بعد، وقد استقبل الوفد بود وفى كلمته ذكر بالنص أن علاقة مصر بإثيوبيا علاقة قوية وتاريخية، ولكن الشيطان الأعظم عمر سليمان والشيطان الأصغر مبارك هما من اختلقا المشكلات وتسببا فى الأزمة هكذا تحدث زيناوى، وهنا ارتفع تصفيق الوفد الشعبى الذى ما كان يجب أن يفعل ذلك، لأن زيناوى صور هذا اللقاء وذهب به إلى بعض من الدول المانحة مثل الدنمارك، ليثبت لهم أن المصريين شعباً يعرف ويؤيد موقف إثيوبيا وأن سبب كل الأزمات كان مبارك وعمر سليمان رئيس مخابراته، وكان هذا الموقف من الأسباب التى أضعفت موقف مصر على الأقل بالنسبة لبعض الدول المشاركة فى صندوق النقد الدولى الذى يمول مثل هذه المشروعات، وإن كانت إثيوبيا الرشيدة قد لجأت للصين وإسرائيل للتمويل حتى لا تضطر لمواجهة العراقيل فى حال لو اشتكت مصر والسودان للبنك الدولى فيوقف التمويل حتى يتم التحكيم كما فى مثل هذه الأحوال.
وإن كان هذا الجهل الشعبى وقلة الخبرة وسوء التصرف قد أسفروا عن الموقف الذى ذكرته، فماذا فعلت الحكومة التى يترأسها رجل أساس عمله فى وزارة الرى أى وزارة النيل؟ لا شىء.. لم تفعل شىء أو على الأقل لم تقل لنا شيئا فعلته، فحين صرح سفير إثيوبيا فى مصر بأن سد النهضة سيقام شاء من شاء وأبى من أبى خرج المتحدث الرسمى لوزارة الرى يقول إن الرجل قال ما قال، لأن الصحفيين أثاروا أعصابه، أى والله، هكذا قال، أى أنه كان يبحث عن تبرير لتصريحات السفير، أما الوزير نفسه فقد صرح بعد بدء عملية تحويل النيل الأزرق بأن الخوف من هذه الخطوة فيه تهويل! أما الرئيس المؤمن شخصياً فمنذ شهور طالب الشعب بالدعاء والحب حتى يزيد علينا فيضان مياه النيل، أما المتخصصون فيصرخون محذرين من نتائج كارثية ولكنهم مغلولو الأيدى لأنهم ليسوا أصحاب قرار.
منذ أسابيع كنت فى زيارة للفيوم وشاهدت مساحات واسعة من الأراضى الزراعية عطشى تذكرنى بفيلم الأرض ومشهد أبوسويلم، ولكن أصحابها لا يغنون الأرض لو عطشانة نرويها بدمانا، لأن الدماء لا تروى الأرض الماء هو الذى يرويها.
نحن بورنا وأتلفنا آلافا من الأراضى الزراعية حين بنينا عليها وتركنا الحكام دون رادع، لأن عيونهم مكسورة فهم لم يوفروا للشعب أماكن ولا تخطيطا لبناء مساكن، ففقدنا الأرض الزراعية الخصبة ورحنا نزرع فى الصحارى وأهملنا النيل شريان حياة مصر، وأفسدنا علاقتنا بأفريقيا التى أخرجتنا من حساباتها، نعم نحن أو حكامنا فيما سلف فعلوا كل ذلك وأكثر، ولكن هذا ماضٍ من العبث البكاء عليه، ولكن الآن علينا أن نسأل ونصرخ ونحاسب حكامنا فيما سيفعلون، وإلا فسيأتى علينا يوم قريب ولا تظنوه بعيدا، ستصورنا كاميرات العالم كالصومال بلد يحتاج إغاثة من المجاعة.
نقلا عن اليوم السابع