بقلم: د. رأفت فهيم جندى
على اوراق البردى هناك تسبحة مصرية قديمة لنهر النيل بدايتها "ألسلام لك ايها النيل يا نابع من بطن الأرض آتيا لمصر لتعطيها حياة" وقيل ايضا منذ القدم أن "مصر هبة النيل" وكان يوم "وفاء النيل" اكبر عيد شعبي مصرى، ولم يكن ُيلقى فيه بفتاة عذراء كما يشيع البعض، وكان توافق الفيضان مع ظهور النجم القطبى هو اساس وبداية التقويم المصرى القديم منذ اكثر من 6000 عام.
والكنيسة القبطية هى التى اسست كنيسة اثيوبيا منذ القرن الرابع الميلادى وكانت تابعة للبطريرك القبطى وتقويم "قدوس يوحنس" الحبشى اسسه ابونا يوحنس المطران القبطى للحبشة وراس السنة فيه هى نفس رأس السنة فى التقويم المصرى، وعلاقة الكنيسة القبطية باثيوبيا ساعدت فى أن تزيد اثيوبيا مقررات المياه الواردة لمصر فى السنين التى انخفض فيها الفيضان.
وبعد الغزو العربى لمصر وقعت ايضا معاناة على كنيسة اثيوبيا لأرتباطها بالكنيسة القبطية الأم، وعندما سيطرت مصر على بلاد الشام منعت الاحباش من زيارة الأراضى المقدسة وطردتهم واستولت على دير لهم وهو ما اطلق عليه "دير السلطان" نسبة للسلطان صلاح الدين، ولكن اسرائيل اعادته لهم بطريقة غير قانونية ايضا عام 1970، وحاولت مصر غزو اثيوبيا عدة مرات، وفى عام 1876منيت حملة الخديوى اسماعيل بهزيمة فادحة مهينة فى موقعة جورا، وكانت ايضا اثيوبيا اول دولة افريقية تهزم القوات الاوربية المستعمرة وتطردهم بعد هزيمتها لايطاليا عام 1896.
حتى القرن العشرين لم يكن ُيعرف بالتدقيق منابع نيل مصر وكان يُظن ان معظمها يأتى من بحيرة فكتوريا فى وسط افريقيا، وعندما شرع الفرنسيون فى إقامة سد سرا فى الكونجو على النيل الأبيض أوقفتهم انجلترا ثم صارت بينهما معاهدة عام 1899 بأن تتحكم فرنسا فى نهر الكونجو وانجلترا فى النيل الأبيض.
وعندما وقعًت مصر معاهدة استخدام مياه النيل 1929 وقعتها مع انجلترا التى كانت تحتل منابع النيل ولم تكن اثيوبيا طرفا فيها، وربما لأنه لم يعرف وقتها ان 86 % من مياه نيل مصر يأتى من بحيرة تانا فى اثيوبيا خلال نيل جورج الازرق.
فى 1959 وقعت مصر والسودان ـ متجاهلتين اثيوبيا ـ اتفاقية تم بمقتضاها انشاء سد "مروى" وسد "خشم القربة" فى السودان و"السد العالى" فى مصر، وبسبب تجاهل حقوق اثيوبيا فى المياه النابعة منها انفق هيلاسلاسى امبراطور الحبشة ملايين الدولارات لدراسة انهار بلده لإنشاء سدود لتوليد الكهرباء والنهوض بالشعب الاثيوبى، كما نجح فى فصل الكنيسة الاثيوبية عن القبطية التى كان يحاول حكام مصر الضغط بها على اثيوبيا، فدبر لهم عبد الناصر المؤامرات مع الصومال لغزو اقليم اوجادين الأثيوبى وايضا أمد جيش التحرير الاريترى بالاسلحة وانتهى الأمر باستعادة اثيوبيا لاوجادين ولكن انفصلت ارتريا عام 1993 وهذا ما جعل اثيوبيا دولة بلا شواطى الآن.
حاليا اثيوبيا دولة علمانية لا تأثير للكنيسة فى سياستها، بل اضطهد رئيس اثيوبيا مانجستو ماريام الكنيسة واعدم سرا البطريرك الاثيوبى ابونا ثيوفيلوس، والشعب الاثيوبى الأرثوذكسى حاليا مقسم بين بطريركين احدهما فى اثيوبيا والثانى مقيم فى اطلانتا بأمريكا.
استمرت تهديدات مصر ايام السادات ثم مبارك لاثيوبيا بعمل عسكرى حال اقامتهم اى سد ، على الرغم أن السادات بعد كامب ديفيد بدأ يحفر ترعة السلام لمد مياه النيل لسيناء ثم لإسرائيل، وبسبب انقطاع الامطار عانت اثيوبيا من العطش فى الثمانينات ومات منها مليون فرد ولم يكن بمصر نفس التأثير بفضل السد العالى، ثم اثار مشروع توشكا لرى صحراء مصر الغربية رئيس وزراء اثيوبيا مليسى زيناوى قائلا لمبارك "انت تريد رى صحراء مصر بمياه النيل وتمنعنى من اقامة سد ينهض ببلدى وشعبى يموت من العطش!".
فى 2010 وما قبلها تجاهلت مصر والسودان دعوة دول منابع النيل لمناقشة توزيع المياه بينهم لأن هذه الدول رفضت اى اتفاقات قديمة اقامتها بريطانيا نيابة عنهم وكان الرئيس التنزانى جوليوس نيريرى اول من الغى هذه الاتفاقات فيما يعرف بـ"نيريرى دوكتورين"، ورفضت مصر والسودان بعدها ايضا الأشتراك فى مناقشات سد النهضة الاثيوبى متمسكتين بحصتهما فى المياه التى اقروها لانفسهم مع انفسهم ! بل رفضت مصر عرضا اثيوبيا للمشاركة فى سد النهضة ولم يعطوهم غير التهديدات وآخرها كان مهزلة علنية على الهواء مباشرة فى اجتماع مهين لمصر بين مرسى وباقى المهرجين.
كان مشروع قناة جونجلى فى جنوب السودان من المشاريع العملاقة وكان سيأتى ب4 بلايين متر مكعب ماء للنهر سنويا ولكن مصر دفعت ثمن مساندتها للشمال السودانى لاسباب عنصرية فتوقف المشروع وُدمر الحفار الذى يعمل فيه. والمصريون أيضا يهينون نيل مصر بإلقاء النفايات فيه وردم اجزاء منه.
لا احد يقبل أن تعطش مصر وان يجف نيلها ولكن لا بد ايضا من اعتبار الآخرين، اثيوبيا دولة فقيرة يعطش شعبها ويموت ولا يصل الماء لكل قراها بعضها لاسباب جغرافية وتؤجر بعض من اراضيها فى الجنوب للسعودية وللصين، وتريد ان تنمى نفسها ومن الممكن أن نكون نحن مساهمين فى هذا، ومن الممكن التفاهم معها على أن تملأ البحيرة خلف سد النهضة على مدار وقت اطول لكى لا يؤثر كثيرا على المياه القادمة لمصر وبعدها يعود تدفق المياه بما لا يؤثر على نيل مصر!
ويبدو أن درس اسرائيل لم يُستوعب، فبعد رفض تقسيم فلسطين عام 1948 عادوا يسترجوا بعض مما لم يقبلوه فى البداية، هل ستتكرر نفس القصة بعد اقامة سد النهضة الاثيوبى؟
مصر دولة افريقية والواجب أن نهتم بعلاقاتنا فى افريقيا اكثر من تركيا وايران وباقى الدول التى لا نفع منها؟! واثيوبيا تعطى المياه لمصر سنويا وعلى مدار العام فماذا اعطتها مصر غير المؤامرات والغزو والقلقلة والتهديد والتجاهل والتكبر والغطرسة, وهناك من وصف مصر انها "امريكة افريقيا"! هل نتعلم من حكمة "عاملوا الناس كما تحبون ان يعاملوكم!؟"