CET 00:00:00 - 01/03/2009

مساحة رأي

أبداً ليس الاهتمام بشئون الوطن، من قبيل الرفاهية الثقافية، التي يقترفها هواة الثقافة، كما يهوى البعض متابعة أخبار أندية كرة القدم، أحياناً إلى حد التعصب المقيت لهذا النادي أو ذاك. . وليس الاهتمام بأحوال الوطن وقضاياه ومشاكله، أمر يختص به أهل السياسة وحدهم، ولا شأن للمواطن العادي به، لأنه سيشغله دون جدوى، بما لا حيلة له فيه، ولا حول له إزائه، فإذا كان هناك قول مأثور يقول أن "الحرب أخطر من أن تترك للعسكريين"، ذلك أن ما يترتب عليها، لابد وأن يعني جميع أفراد الشعب، لأنهم من سيتحملون تبعاته، ولابد أيضاً من أن يكون قرار الحرب والسلم، خاضعاً بالدرجة الأولى لرؤى أهل السياسة، وليس فقط لمحترفي القتال، فإننا بالتالي يمكن أن نقول أن "السياسة أخطر من أن تترك للسياسيين"، وأن الشعب صاحب المصلحة الحقيقية لابد وأن يكون مشاركاً في تقرير مصيره، حتى لا يترك السياسيين وأهواءهم، التي يمكن أن تذهب بهم إلى شطحات، تدخل بالبلاد والعباد في متاهات، أو يجلبون لها كوارث كتلك التي دخلت إليها مصر خلال مختلف العصور الماضية.
ليس الاهتمام بالوطن وشئونه العامة أيضاً من قبيل الاهتمام الذي يمكن أن يعتبره البعض مضيعة للوقت، لأنه يلهي عن تفرغ الفرد لكسب عيشه. . فالباحث عن الرزق له ولأولاده، لا يتم بحثه هذا في الفراغ، أو في صحراء أو غابة، يلتقط منها رزقه، دون أن يعنيه أمر تلك الغابة وأحوالها، فكل منا يسعى لتحصيل قوته داخل وطن، تتشابك فيه مصالح كل ملاك هذا الوطن وتتداخل، يحتاج فيه المشتري للبائع، والمدرس للتلميذ، والسائق للراكب، والمريض للطبيب، بحيث يكون انعزال الإنسان في حدود ما يعتبره مصالحه الخاصة، هو قصر نظر مدمر، كما لو كان هناك من يحاول أن يجمع الماء عن طريق إناء مثقوب، إذ يتبدد كل ما يجمعه بجهده، فيتسرب من الثقوب، أو كمن يسير في طريق ولا ينظر إلا إلى ما تحت قدميه، فلن يلبث مثل هذا الإنسان أن يسقط في أقرب حفرة تصادفه، وإذا ما استمر وأصر على نهجه هذا، فإنه بالتأكيد لن يصل إلى حيث يريد أن يصل، لأنه ما أن يصعد من حفرة، حتى يقع في الأخرى، مثل ارتفاع الأسعار وسوء المرافق، أو رداءة نظام التعليم أو انعدام الوظائف لأبنائه، وغير ذلك من الأمور، المرتبطة كلها بالوطن ككل، ويستحيل أن يحصل المواطن على الحياة الكريمة، التي ينشدها لنفسه ولأسرته، دون أن تكون أحوال الوطن كله حسنة.
قد نجد أيضاً من يعتبر أن الاهتمام بالسياسة والأمور العامة، هو من قبيل الاهتمام بالعالم، الذي يلهي الإنسان عن الاهتمام بحياته الروحية، ويظن أن الإنسان الروحي الحريص على ملكوت السماوات، عليه ألا يكترث أو ينشغل بالعالم، حتى لا يصرفه هذا عن النظر إلى الحياة الأبدية. . ورغم أن الاهتمام بالروحانيات هو أمر حيوي لكل المؤمنين، إلا أن هذا لا يمكن أن يعني أن نهمل حياتنا الأرضية، فالأرض لا يسكنها ملائكة أو كائنات روحية محضة، لكننا بشر لنا جسد وروح، وبالتالي نحتاج لرعاية كليهما. . هكذا يكون من يقصر في الاهتمام بأمور الوطن والمجتمع، متعللا بتركيز اهتمامه على الروحيات، هو مقصر في الحقيقية في حق كل من الروح والجسد، وأن ما يسوقه من حجة لإهماله وتقاعسه، هو مجرد تبرير غير مستساغ ولا مقبول، فالروح الذي يدعي مثل هذا الإنسان الاهتمام بها، هي روح تسكن الجسد، لا روح ترفرف حرة فوق السحاب.
مصرنا إذن هي موطننا، موطن كل من أجسادنا وأرواحنا التي تسكن تلك الأجساد. . كل الساكنين المالكين لمصر، كل مواطنيها، باختلاف أديانهم وأعراقهم وتوجهاتهم، هم بعض منا، بعض من أجسادنا وأرواحنا، فأبناء الوطن الواحد كأعضاء الجسد الواحد ذي الروح الواحدة، لا يمكن أن يهنأ هذا الجسد أو يسعد، فيما عضو واحد من أعضائه مريض. . مصر التي في خاطري، وفي خاطرنا جميعاً هي الأم والبيت والكنيسة الكبيرة. . مصرنا ليس لنا سواها، ولن نجد لها بديلاً. . حتى من يهاجرون منا إلى أوطان أخرى، يحملون جنسياتها، وينخرطون في حياتها ومشاكلها، هؤلاء تظل مصر بالنسبة لهم المنبت والأصل، الذي يهفون إليه، ويرتبطون به هم وأبناؤهم وأحفادهم، ليس فقط لأنهم تركوا على أرضها الأهل والأحباب، ولكن أيضاً لأن أجسادهم ودماءهم من طمي واديها وماء نيلها. . هي الرحم الذي استمدوا منه الوجود والحياة.
إذا كان ما استعرضنا هو العلاقة الطبيعية والدائمة بيننا وبين الوطن، فإن مصرنا اليوم في وضع خاص وخطير، هي أحوج ما تكون فيه إلينا جميعاً. . مصر تحتاج الآن إلى جميع الشرفاء والمخلصين من بنيها، باختلاف انتماءاتهم الدينية والاجتماعية والسياسية. . تحتاج إلى المفكرين وإلى البسطاء. . الفقراء والأغنياء. . الرجال والنساء. . تحتاج منا أن نتكاتف لكي نخرجها من ورطتها الراهنة، من مأزقها الحضاري والاقتصادي والثقافي. . أبداً ليست هذه مهمة رئيس جمهورية أو وزراء وحدهم، ولا هي مهمة مسلمين أو مسيحيين أو أي أصحاب ديانة وحدهم، سواء كان هؤلاء أغلبية أم أقلية، فمصرنا الآن فريسة بين فكي الفساد والاستبداد، وبين تجار الدين والجماعات الإرهابية المستترة بالدين، يتنازعونها فيما بينهم. . يتقاتلون فيما بينهم حيناً، ويتحالفون معاً حيناً آخر. . يتلاعبون بهذا الشعب الطيب الصابر، والغافل الساذج اللامبالي أيضاً، ومهمة إقالتها من عثرتها هي مهمتنا جميعاً دون استثناء.
إن من يرغبون أن يكونوا بالحقيقة ملح الأرض ونور العالم، عليهم أن لا ينسحبوا من خدمة وطنهم، ويتركونه للذئاب لتفترسه. . عليهم ألا يحققوا غرض من يريد أن يطردهم من الساحة، لتخلوا له يفعل بها ما يشاء. .  كما أن عليهم ألا ينظروا للوطن من زاوية طائفية ضيقة، تكتفي بالمطالبة بحقوقها المستحقة بالفعل، دون أن تتقدم للعمل على نيل تلك الحقوق، بالتوازي مع إعادة ترتيب كل البيت المصري. . أن يعملوا بالتكاتف مع المخلصين والمستنيرين من أبناء هذا الوطن، من أبناء جميع الديانات، ومن أصحاب مختلف الانتماءات السياسية، لكي نعمل معاً من أجل مصر حديثة ومتطورة وحرة وديموقراطية.
kghobrial@yahoo.com

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٩ صوت عدد التعليقات: ٦ تعليق

الكاتب

كمال غبريال

فهرس مقالات الكاتب
راسل الكاتب

خيارات

فهرس القسم
اطبع الصفحة
ارسل لصديق
اضف للمفضلة

مواضيع أخرى للكاتب

مصر التي في خاطري

جديد الموقع