مَرَّ أكثر من 14 عامًا مُذْ كتب "دان بيتنر" على صفحات مجلة ناشيونال جيوغرافيك العالمية أول تحقيق له عن أطول الناس عمْرًا في العالم. وما زال حتى اليوم يكتشف أسرار أولئك المعمّرين في أماكن يسميها "المناطق الزرقاء"؛ وقد عاد مؤخرا إلى أربعة منها لمعرفة مزيد من الأطعمة التي تُسهم في ظاهرة إطالة العمر المدهشة هاته؛ حيث جَمع وصفات غذائية أثبتت جدارتَها عبر الزمن، وبحث في السبب الذي يجعل من بعض الأطعمة عواملَ مساعدة على عيش حياة مديدة.

 
سرديـنـيا، إيطاليا
 
راحت "أسونتا بودا" -ذات الـ 99عامًا- تحرك بقوة محتوياتَ وعاء خزفي وافتر ثغرها عن ابتسامة كشفت عن أسنانها. ثم قالت ملَوحةً بيدها في اتجاه الوعاء قائلة: "إنها شُربة المينيستروني".
عندها شرعتُ في إمعان النظر إلى ذلك المزيج من الفاصوليا والجزر والبصل والثوم والطماطم والشمر والكرنب الساقي وأعشاب الطهي، كلٌ يجري تحت بقع ذهبية من زيت الزيتون. خلف المرأة، تسلل ضوء المساء من خلال نافذة فألقى بسناه على مائدة انتشرت فوقها مكوناتٌ من القرون الوسطى: أرغفة خبز العجين المخمر، وخضراوات محلية، وقنينة من النبيذ الأحمر.
 
"اِجلس"، تأمرني المرأة بإصرار ينِمُّ عن كرمٍ حاتمي اشتهرت به المنطقة، رغم نبرتها الحادة. انضممت إلى عائلاتها برفقة "جياني بيس"، عالِم أوبئةٍ يَعكف على دراسة هذه المنطقة.
ثمة تناقض صارخ بين بلوزة بودا التقليدية المطرزة وقلادتها العتيقة المزركشة وسترتها السوداء، وحركاتها الرشيقة: فبيدها الثابتة ثباتَ امرأةٍ شابة، صبتّ النبيذ في أقداح متينة وسكبت الشُربة في الأطباق بالمغرفة.
ثم قالت لي: "الآن كُل".
كنا يومئذ في سردينيا وتحديدًا على المنحدرات الشرقية لجبال "جينارجينتو" في "أرزانا"، وهي قرية في منطقة يوجد بها أعلى تجمع في العالم للذكور المعمرين. ففي الأعوام التي تلت الحرب العالمية الثانية، بلغ 38 شخصا في هذه القرية -أي بمعدل شخص واحد من بين كل 100 من أقرانه- قرنًا كاملًا من العمر.
اكتشف بيس هذه الظاهرة في أواخر تسعينيات القرن الماضي. ومنذ ذلك الحين، أجرى الرجل مقابلات دقيقة مع أكثر من 300 شخص من الذين بلغوا مئة عام من العمر، مستخدمًا في ذلك استبانات موسَّعة. وهو يعتقد أن الشوارع شديدة الانحدار، والارتباط الوثيق بالعائلة، وإجلال كبار السن، والثقافة الأمومية التي تتحمل فيها النساء معظم ضغوط العائلة، والنظام الغذائي البسيط؛ كلها عوامل تفسر جانبًا كبيرًا من ظاهرة العمر المديد هذه. يقول بيس إنه وجد أن أزواج المعمرين يعيشون فترة أطول مقارنة بأشقاء المعمرين وشقيقاتهم؛ مما يشير إلى أن النظام الغذائي ونمط الحياة قد يصنعان فرقًا أكبر من المورّثات.
يفضل بيس ارتداء نظارات ذات إطار أزرق وقد أطلق لحية ذقن اكتست بلون فضي. احتسى ملعقة من الشُربة ثم قال: "دليسيوزو!" (لذيذ) وهو ينظر بإعجاب إلى بودا التي أغلقت عينيها وهزت كتفيها.
تحتوي المينيستروني على الأحماض الأمينية الأساسية وطائفة واسعة من الفيتامينات ومجموعة من الألياف. وقد وجد بيس أن المعمرين لديهم سلالات محددة من البكتيريا في أنظمتهم الهضمية تعمل على تحويل الألياف إلى مستويات عالية جدا من الأحماض الدهنية ذات السلسلة الفردية؛ وترتبط هذه الدهون المشبعة بانخفاض خطر الإصابة بأمراض القلب وقد تمنع السرطان.
 
وقد يكون هناك دور أيضًا للخضراوات الصليبية، مثل الملفوف وخاصة الكرنب الساقي، التي تدخل ضمن مكونات كل طاسة من المينيستروني تقريبا في سردينيا. بعد أن لاحظ بيس وجود نسبة مرتفعة من المعمرين الذين يعانون تضخم الغدة الدرقية -وهي حالة مصاحِبة لانخفاض نشاط الغدة الدرقية- تَكهَّنَ بأن "الثيوسيانات" من نظام غذائي ثابت قوامه الكرنب الساقي قد تحدّ من وظيفة الغدة الدرقية. ولعل ذلك يساعد سكان سردينيا على العيش فترة أطول عن طريق خفض معدل الأيض لديهم، كما يقول بيس، تمامًا كما تدوم شعلة ذات لهب خافت مدة أطول من غيرها.
 
في "سيولو"، وهي قرية أخرى تنعم بالمعمرين، زرنا -أنا وبيس- مَخبزًا جماعيًا عُمره قرن من الزمان. كانت هناك عشر نساء يصنعن الخبز المميز الذي يتم تناوله مع جل الوجبات. شاهدناهن وهن يشعلن النار في فرن من الطوب ويعركن العجين بأذرع قوية وقد توهجت وجوههن. كانت الخبّازة الأقدم، وهي امرأة ثمانينية قصيرة وقوية تدعى "ريجينا بوي"، تشرف على سير العملية بفستانها الأسود ووشاحها؛ إذ كانت توزع النصائح والإشارات بشأن جاهزية العجين ومدى سخونة الفرن.
 
كانت بوي قد جهزت العجين التمهيدي، وهــو زبـــد لزج يشبه الحليب الممخوض؛ وقــد ظلــت عائلتهـا تستخدمـه على مــر أجيال وأجيال، ويحتوي على الخميرة والبكتريا اللبنية الأصلية. تنتج الخميرةُ والعصياتُ اللبنية ثاني أوكسيد الكربون الذي يخمّر الخبز، كما تقوم العصيات اللبنية أيضا بتفكيك الكربوهيدرات لإنتاج حمض اللكتيك.