محمد حسين يونس
مع نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين كان العالم قد أصبح مستعدا لقطف ثمار عصر اوروبا'> نهضة اوروبا و ظهور وتطور عدد من النظريات ذات الفلسفات الكلية التي شكلت (لدى المثقفين ) وعيا موسوعيا أنهي حقبة من تاريخ الانسان كان يتردد فيها بين ثقافة بازغة كاشفة و اخرى قديمة مبنية علي معطيات التوراة و الفلسفة اليونانية .

عالم المعرفة الجديد ابحر فيه بجسارة دارون، ماركس، انجلز، فرويد، اينشتين، و توينبي لينتجوا للبشرية اغلي ما فيه من درر..مجموعة من كتب تضوى كلآلىء .. مثل أصل الانواع ، راس المال ، تفسير الاحلام ، و جدل الطبيعة ..

كتب و موسوعات من الصعب ان تقرأها في فترة الراحة او اثناء انتظار وسيلة مواصلات .. فمتابعة التطور( الطبيعي او القصدى ) لاعضاء جسد اليمامة البرية بحيث تصبح ما نعرف من حمام بانواعه الحديثة المتعددة أو الاستماع الي حوار حفريات عمرها ملايين السنين و هي تبوح بقصة تطور البرمائيات و خروجها الي اليابسة كان يحتاج الي جهد و تركيز و دراسة شاقة ناقدة لافكار كانت لا تزال في طور التكوين و النضج ..

اليوم مع متابعة أفلام ناشيونال جيغرافيك .. تستطيع أن تستوعب .. ما عجز معاصرى دارون علي فهمة .. و ما نعجز نحن أبناء التنابلة .. عن إدراكة .. و تصور أن الكائنات الحية لازالت تتغير و تتطور و أن فيروس صغير من نوع (كورونا ) عندما تطور وضع العالم في حالة طواريء .

احلام الانسان التي كان تفسيرها حكرا علي رجال الدين و الشيوخ عندما تناولها فرويد أذهل الجميع، فحلم السقوط او الطيران الذى يحلم به الانسان المعاصر هو تعبير عن خوف داخلي كامن في العقل البشرى منذ زمن سكنه في اعشاش اعلي قمم الاشجار، اما الحزن الشديد علي موت صديق في الحلم فهو تلاعب من العقل الباطن ليمرر رغبة صاحب الحلم في التخلص من الضحية صديقة.. الاعيب العقل الباطن .. التي نزاولها يوميا .. حتي في أبسط تصرفاتنا أصبحت معروفة للعديد منا عدا هؤلاء الذين لازالوا يفسرونها بإسلوب (( خير اللهم إجعله خير .. العيش في الحلم معناة رزق )) .

دارون ، فرويد ، انجلز كانوا نوعا من البشر (حاد الملاحظة ، شديد الذكاء ، لماحا للتطورات التي تحدث حوله )..كان متوفرا في كل المجالات العلمية ، الفنية ، الاجتماعية، و الادارية في ذلك الزمن الناهض الذى خرج فيه الانسان من اللعب علي ضفاف بحيرات العلم ( علي حد قول نيوتن ) الي اعماق البحر العالي للمعرفة و الفهم و الادراك .

مع ذلك فالغالبية العظمي من البشر المتمتعين بحضارة الغرب لم تقرأ نسبية اينشتين او فلسفات هيجل او سارتر او نظرية الكوانتم .. فهي مغاليق تحتاج الي اعمار عديدة لدراستها او كما قال برنارد شو (( العودة الي متوشالح )) ( ابن النبي نوح الذى قارب عمره الألف سنة ) وذلك لاستيعاب علوم عصره ..

وهكذا استفاد الانسان العادى من نتائج ابحاث و دراسات و ابتكارات و فلسفات الصفوة وظل هو علي جاهليته اسيرا لابراج الحظ و توقعات المنجمين و القصص البدائية التي روتها له امة مستسلما دون فكاك لفخ التفاسير والطقوس والاحتفالات الدينية .

القرنين التاسع عشر و العشرين مرا علي هذه الارض ايضا .. فترك لنا الصفوة العديد من الكتب والموسوعات اشهرها موسوعة العالم النابه سليم حسن عن تاريخ مصر القديمة ، والباحث العملاق العاشق لبلده جمال حمدان عن عبقرية المكان ، وترجمة زهير الشايب المتزنة لكتاب وصف مصر الموسوعي الذى كتبه علماء الحملة الفرنسية مع مدخل القرن التاسع عشر، بالاضافة الي اسهامات رموز التنوير شبل شميل، لويس عوض، طه حسين، يوسف ادريس .. جيل من المبدعين الجادين الذين كشفوا من خلال ما ترجموا او ابدعوا اعماقا مظلمة لتاريخ منسي لامة ظلت مقهوره و انسان عاش في بلده غريبا يعاني لآلاف السنين من ظلم التجاهل و الارهاب و نهب ما ينتج .

استيعاب هذا الكم الهائل من الاوراق المطبوعة و الافكار المتحركة و الدراسات الايجابية و استخراجها من بين ركام اكوام الكتب عديمة الفائدة و الجدوى التي غمرتنا بهاالمطابع و يحتاج الي عمر متوشالح .. لذلك جاءت تجربة نهرو في تثقيف ابنته انديرا غاندى بتلخيص تاريخ العالم لها في كتاب واحد ..او برنارد شو في كتابة دليل المراة الذكية للاشتراكية كنماذج ملهمة سار علي هداها سلامة موسي في انجاز مشروعه التنويرى لتبسيط اصعب القضايا العلمية و شرحها فاصدر كتب في علم النفس و التطور و الفلسفة لاقت قبولا ورواجا بين الشباب،

علي الجانب الاخر قام حلمي مراد باتباع نفس الدرب ولكن في الادب و الفن من خلال سلسلة (كتابي )التي كانت السبب في تعرف جيلي علي أعمدة الادب العالمي ديستيوفسكي ، تولستوى ، فيكتور هوجو، البير كامي ، كافكا ، بالاضافة الي الكلاسكيين شكسبير و هـ جـ ويلز حتي يوربيدس و سوفوكليس ..

الشروح و العروض التي قدمها سلامة موسي ( وجيل من بعده ابرزهم احمد بهاء الدين ) قادت من يريد الي استكمال البحث و الدراسة .. وتعاريف حلمي مراد أدت للبحث عن الاصول لينعم جيلي برائدين شكلا ملامح شخصيته الثقافية .

في منتصف القرن العشرين و حتي بدايات السبعينيات كان لمجلات مثل الطليعة، الفكر المعاصر، علم النفس دورا هاما في تعريف الاجيال المتتالية بمفردات ثقافة القرنين السابقين حتي اوقفها السادات وفتح الباب للوهابية لتمسخ الحياة الثقافية في بلدنا و ليتغلغل عملائــُها يقودون المصريين عبر ممر وحيد سرابي النهاية يحيطة شيوخ اجلاء من كل جانب وعلي راسهم شيخ وزير احتل جميع وسائل الاعلام يعظ و يفسر و يصلي لله شكرا علي هزيمة الجيش المصرى في 67 ،

ثقافة زمن السادات و من بعده المبارك ( رغم الدعاية المبهرة للسيدة حرم الرئيس عن مكتبة الاسرة و القراءة للجميع ) لم ينتج عنها اى اثر تقدمي ( سوى تقدم ارصدة بنوك المحاسيب من المرضي عنهم ) وسيادة الثقافة السمعية علي البصرية فاضمحلال الطبقة الوسطي التقليدية و صعود طبقة الارزقية من رجال اعمال يعانون في الغالب من الامية جعل الفكهانية، الجزارين، الميكانيكيه و السباكين هم الذين يوجهون المسرح و الاغنية و الموسيقي و السينما

و يتوقف المصريون عن القراءة ( للجيد و الغث) و يكتفون بمتابعة التلفزيون /الاذاعة / الكاسيت / الجامع / الكنيسة / و دروس الدعاة وتوقفت نهضة ستينيات القرن الماضي لينحصر دور الجريدة و المجلة في عرض الاعلانات و الاستفاضة في سرد قصص فضائح او جرائم النجوم و لم يعد للمثقف مصدرا للمعرفة او مصبا لانتاجه .. حتي جوائز وزارة الثقافة تحكمت فيها اجهزة الامن و اصبحت حكرا علي عملاء المباحث وامن الدولة الا فيما ندر .

وزارتي الثقافة و الاعلام اصبحتا وكرا لرجال الجندرمة و الباحثين عن الثروة و الموظفين المطيعين الذين تختارهم بعناية الرقابة الادارية و الأمن ( شرط ان يكونوا فاسدين) ليمثلا منظومة متكاملة مع وزارات التعليم والتعليم العالي و البحث العلمي و الازهر الشريف شعاره لا نرضي بالتخلف بديلا

ليعزل بذلك دارون ، ماركس ،فرويد ، ورواد الثقافة العرب و المصريين الاوائل و تسقط مصر في براثن افكار و ثقافة العصور الوسطي .

رغم العمر الطويل الذى أفنيته في التعلم و الفهم .. و الإنتاج إلا أنني أقف أمام .. فيروس كورونا .. كالمتخلف .. لا أفهم من كم الدراسات و الأبحاث المعروضة شيئا .. ثم أبتسم .. تواضع فأنت جاهل ..

لقد ضاع العمر يا ولدى .. ولم يحصل ابيك علي علم كاف .. حتي لو حاز في هذا المكان علي عمر متوشالح فسيظل علي حاله .