د. أحمد الخميسي 
للحكم على أي ظاهرة لابد من وضعها في سياقها التاريخي، أي في ارتباطها بما حولها، وماكان قبلها، وتطور الظاهرة وما آلت إليه. من دون وضع الحالة- أي حالة-  في سياقها فإننا نصبح أسرى الفهم المشوه غير الصحيح للمسألة، أيا كانت تاريخية أو اجتماعية. في الطب على سبيل المثال لا يمكن للطبيب العلامة أن يعطي علاجا للكبد أو غيره من دون النظر إلى علاقة الكبد بما حوله، وارتباطه بالوضع الصحي العام للشخص، وببقية أعضاء البدن، وتفاعلات ذلك الارتباط.
 
وطالما تباينت المواقف من النكسة، واختلفت، بدءا من الشماتة التي كان الشيخ شعراوي أبرز نجومها حين صلى شكرا للرب على هزيمة مصر، ومرورا بأولئك الذين " أرقهم الخوف من العدل"ومن انحياز الثورة للطبقات الفقيرة التي أرقها " الشوق إلى العدل"، وصولا إلى أولئك الذين تناولوا النكسة بمعزل عن سياقها وقالوا ومازالوا إن سببها الرئيسي انعدام الحريات العامة والديمقراطية في تجربة الثورة.
 
ولست في معرض مناقشة من يسجدون شكرا على هزيمة الوطن، ولا أولئك الذين يعتبرون أن الثراء الفاحش والفقر الفاحش أمر طبيعي لا يجوز أن تمتد إليه يد التغيير.
 
يتبقى من يظنون أن غياب الديمقراطية وحكم الفرد سبب الهزيمة التي سميت تأدبا نكسة، ولأولئك أقول إنني كنت ومازلت مع  اشاعة الديمقراطية، وأعدها عاملا مهما في مواجهة كل الأزمات، لأن الشعب في ظلها يصبح قادرا على التعبير والابتكار والحركة والمواجهة، ولكني للحكم على النكسة أرى ضرورة وضعها في سياقها، اي في إطار الهجمة على ثورة سعت إلى تحقيق الاستقلال وطرد الانجليز باتفاقية الجلاء 1954، وتحقيق الاستقلال الاقتصادي ببناء المصانع، وقرارات تمصير الشركات الأجنبية، وكسر احتكار السلاح عام 1955، وبناء السد العالي، وتفكيك حلف بغداد الاستعماري 1958، وقرارات التأميم، ودعم الكفاح الفلسطيني المسلح، وثورة الجزائر، وإلهام ليبيا القضاء على القواعد العسكرية، ومساعدة اليمن في الخروج من ظلمات العصور الوسطى، وإتاحة التعليم مجانا لأوسع فئات الشعب، ونشر الثقافة المعادية للاستعمار والهيمنة.
 
في هذا السياق تحديدا وعلى ضوء هذا الدور كان لابد من ضرب الثورة بعد أن مثلت تهديدا مباشرا للمصالح الاستعمارية، ومن هنا كانت نكسة أو ضربة 67، من هنا وليس لغياب الديمقراطية في التجربة! ويكفي التذكير بعشرات الحكام من العرب وغيرهم ممن لم تعرف نظم حتى رائحة الديمقراطية ومع ذلك ظلوا متربعين على عروشهم بطمأنينة عقودا طويلة، ذلك أن الديمقراطية لم تقض مضجع الاستعمار قط ، ولا بمليم، وعندما تمت إبادة الهنود الحمر لم يكن ذلك لغياب الديمقراطية لديهم! لكن لأنهم واجهوا عدوا تصادف أنه تاريخيا كان أكثر تفوقا بكثير.
 
ولم يكن غياب الديمقراطية أيضا هو السبب الرئيسي في تصفية تجربة محمد علي باشا أو هزيمة البطل أحمد عرابي، كما أن اشاعة الديمقراطية لم تنفع سلفاور الليندي بشيء عندما قررت أمريكا ازاحته عن الحكم وتعيين عميل لها ليحكم تشيلي. ولا يمكننا إذن أن ننظر أو نفهم النكسة من دون وضعها في سياق عدائها للاستعمار الأمر الذي استحقت عليه العقاب.
 
في هذا السياق تصبح النكسة مشهدا من تاريخ الصراع الوطني المصري من أجل الاستقلال والتطور ومن الطبيعي أن يحفل التاريخ بكبوات ونهوض وقد تم ذلك بحرب الاستنزاف التي كان من المستحيل من دونها الوصول إلى نصر أكتوبر. أخيرا قد يجدر القول إن هناك هزائم تنطوي في داخلها على عناصر الانتصار، كما أن هناك انتصارات تبطن في داخلها عوامل الهزيمة.