بقلم: أندرو اشعياء
- أأنت الطفل الذي تفوه بكلماتٍ في سني عمره الأولى؟! 
- نعم أنا 
- كم كان عمرك وقتئذ؟!
- يقولون عامًا واحدًا 
- أنت تكذب! وإن لم تكن فماذا قلت ؟! 
- لست أدري! هم يقولون لي أنني تكلمت بكثيرٍ من الكلمات ..
هكذا دار الحديث، او قلْ كثيرًا ما دار هذا الحديث في بلدتنا سواء تكلمت أم لا، وكثيرًا ما رأيت أناس يحدقون النظر فيَّ هامسين بعضهم لبعضٍ بكلماتٍ يستدل منها أنه نفس الحديث السابق. وحتى أنني في وقت اللعب كان الأطفال منهم مَن يستلذ باللعب والتقرب مني بدافع طفولي أنني انا صاحب المعجزة – كما كانوا يقولون – والبعض الاخر يحبذ النفور مني مُرددين لأنفسهم: «لا نلعب معه لأن به شيطان»!. 
 
وعلى هذا المنوال كنت أتضايق كثيرًا حتى أنني كرهت اللعب لأنني دائمًا موضوع جدال بين الطرفين؛ ولهذا فضلت البعد. وحين كبرت بدأت أن اتسائل عن هذا الموضوع 
 
- أحقا تكلمتُ وانا طفل؟!
- نعم يا ابني. تكلمت.
- وكيف تكلمت وانا عمري سنة؟! 
- لا ندري 
- (بعد فترة صمت) وبماذا تحدتث؟!
- أنقذت الراهب من بليته!
- الراهب! من هو هذا الراهب ؟! 
- ابونا في الدير النائم (يقصد المتنيح المُسجَّى جسده في مقصورة)
- احكي لي عما كان 
- بإختصار لقد ابرئت راهبًا وأنصفته أمام التاريخ! 
 
ودون شك كانت هذة الكلمات كبيرة لحد ما يجعلني لا أفهمها، وهكذا كنت احفظها وأرد بها عمَن يسألني. حتى جاء يومًا اصطحبني فيه أحد اقاربي الى الدير، وهناك رحبوا بي كثيرًا وسألتهم عن القصة فأجابوا أن الوقت الآن يحين لنحكي لك عما جرى! 
 
حدث أنه كان هنا بالدير أخًا طالب رهبنة (وليس راهبًا) وكانوا قد عهدوا اليه أن ينزل لقضاء مهمة معينة، ومن نذور الرهبنة الطاعة، فأطاع ونزل، ولكن عدو الخير جذبه لطريق الشهوة وجعله يخطئ مع بنت أحد أكابر القرية المجاورة للدير الذي كثيرًا ما أخدق على الدير من أمواله وسدد احتياجاته. 
 
هذا الرجل بعدما عرف من ابنته قرر أن يحرق الدير وكل محتوياته، ولكن تدخل الله على فم الأب رئيس الدير وأقنع الرجل أن فتاته الصغيرة لها دور كبير في الأمر؛ فلجأ الرجل الى طلب الشاب طالب الرهبنة ولكن رئيس الدير فضل أن يحافظ عليه مُعطيًا اياه قانون روحي قاسي جدا من أن يتركه لتهديدات الرجل! بدافع ما قاله مار اسحق: «الْقِ ردائك على الخاطئ لتستره» وتحمل الدير نفقة هذا الأمر وما تتبعه من خسائر وربما فوق الكل، العثرة. وبالتالي لم يتغير شكل هذا الشاب طالب الرهبنة الى راهبًا! 
 
وبعد شهور ولدت الفتاة ابنها ولم تحدث المعجزة التي طلبها الناس، أن تتعثر في ولادتها، ويظهر الفاعل الحقيقي كما حدث في القصة من قبل، وبمجرد أن ولدت خابت آمالهم خصوصًا مع اعتراف الشاب بما حدث! 
 
ولكن تمر الأيام على قاطرة السنون حتى يأتى يومًا طلب فيه الشابُ، الرئيسَ، أن يجمع كل مجمع الدير وأن يحضروا الطفل الرضيع لتوضيح أمر مهم! وحينئذ انهال عليه الرئيس بكلمات التأنيب والرفض، وبعد إلحاح شديد وافق؛ ناهيك عن مشقة إحضار طفل رضيع لقلب الصحراء. 
 
وحين إجتمع الكل، أخذ الشاب طالب الرهبنة، الطفلَ، وحمله على ذراعيه وصلى قائلًا: «أيها الطفل المبارك لا تُخفي شيئًا عن المجمع. وليظهر الرب على لسانك ما حدث» حينئذ نطق الطفل الرضيع وقال: «الذي فعل هذة الفعلة هو «فلان» وليس هذا الشاب، أما أنت أيها الرئيس فلقد ظلمت! كيف لك أيها الشيخ أن تقود كل هذا الجمع دون أن تعرف كيف تميز بين البار والآثم؟!.. أما هذا الشاب البرئ فهو ابن والي مدينة الكنز، وعاش بتولية صالحة» حينئذ طلب الشاب من الطفل أن يسكت قائلًا: «كفاك أيها الطفل لا تتكلم الى حين أن تبلغ الحد الذي ينبغي للأطفال أن يتكلموا» وحينئذ صاح كثير من الأباء بالبكاء ولا سيما رئيس الدير الذي ردد كثيرًا بعبارات الآسف عما بدر منه مِن ظلم. 
 
وللعلم هذا الشاب أسلم الروح بعد ساعات قليلة من هذا الحدث، وفاح عبير سيرته الى المناطق المجاورة حتى من به داء أتى طالبًا شفاعته وبإيمان نال شفاءًا. 
 
ويُعد احتمال التجارب والبلايا منهجًا انجيليًا ابائيًا أصيل؛ فيُحكى عن أنبا موسى القوي أنه كثيرًا ما ناشد أبنائه: «إحتمل الخزي والألم، باسم المسيح، باتضاع وبقلب منكسر، وإطرح ضعفك أمامه، وسيعطيك القوة بحلوله فيك»، وأن من مقومات السيطرة على الذات هو إحتمال التجارب بصبر. أما عن الصمت اتجاه التجارب والصمود بشكر فقال شيخ: «من الخزي للراهب، أن يدخل في المحاكمه مع انسان يظلمه، أو يدين أحدًا، على ضرر، يسببه له؛ بل يترك الأمر لله» فهل رأيتم مائت يرجو رضى الناس؟!
 
وجدير بالذكر أن هذا الشاب هو القديس دورتاوس، الشماس المكرم، وهي قصة واقعيه حدثت بالفعل. كُتبت هنا بتصرف.