فاروق عطية
إبان سفرتي لبلاد العجائب الفلبين صيف عام 2014م، استمتعت في مانيللا بكل ما فيها من تناقضات، الجمال والقبح، أُبّهة البنايات والأكواخ الصفيحية، أوتوبيسات حديثة مكيفة وعربات بلا نوافذ ولا أبواب، مولات فخيمة عملاقة وبائعون جائلون يفترشون الطرقات يبيعون كل شيئ، وشعب طيب مسالم ولصوص يسرقون الكحل من العيون، مطاعم رائعة وعربات مأكولات علي الأرصفة.
 
   وبعد زيارة كل معالم العاصمة وما حولها من ضواحي واكتواء بنار حرها وضِيق صِدر بتلوث جوها، قلت لمُضيفي كفي البقاء في العاصمة وخذني لأجمل ما في الريف والشواطئ والغابات. فكّر قليلا ثم قال: في مسقط رأسي ميندناو كل المتعة والجمال والتنوع. وفي مدينة بايوجان القريبة من مديبة بوتان، لنا منزل هناك على ضفاف نهر أجوستان. صمت قليلا ثم أردف شارحا: أرخبيل ميندناو يقع في أقصي جنوب الفلبين وهي ثاني  أكبر جزر الفلبين، وهي تُشكِل مع كل من لوسون (جزر الشمال) وبيساو (جزر الوسط) ما يعرف بأرخبيل الفلبين. ويتكلم سكان مينداناو لغة المارناو وهي اللغة الغالبة في الجزيرة وتتضمن ألفاظا عربية كثيرة، ولكن كلنا في الفلبين رغم تعدد اللغات نتفاهم بلغة التجالوج التي يجيدها كل الفلبينيين. 
 
   غالبية سكان الجزيرة هم من نسل الإندونيسيين والماليزيين والهنود والعرب والصينيين والكوريين واليابانيين والأوروبيين والأمريكيين الذين احتلّوها في الماضي. عدد سكان مينداناو يبلغ حوالي 27 مليون نسمة ويُكون المسيحيين نسبة 70% تقريبا فيما تبلغ نسبة المسلمين 24% وتتوزع النسبة الباقية بين البوذية والهندوسية والملحدين وديانات محلية أخرى. تقع فيها قمة جبل آبو البركاني أعلى قمة جبلية في البلاد، ويقع في شمالها وادي ألجيوسان الخصيب، وتبلغ مساحتها نحو 95 ألف كيلومتر مربع، وهي ذات مناخ معتدل يبرد في الشتاء. فيها قرابة ثلاثين مدينة أكبرها مدينة دافو وهي الأكثر نموا وتطورا وتضم العديد من مقار الشركات والبنوك وتعد عاصمة للجزيرة، يليها زامبوانجا، كاجايان دي أورو، جنرال سانتوس، بوتوان، وكوتاباتو. تعد منطقة جبل آبو متنزها وطنيا ومنطقة جذب سياحي بسبب مناظرها الطبيعية، وغاباتها وحياتها الفطرية. بها معالم سياحية من بينها نصب  السلام والوحدة  التذكاري والمعبد الطاوي وكاتدرائية القديس أوغستين.
 
   ثم قال محذرا: يا صديقي حين نصل إلي ميندناو كن دائما مع جماعتنا ولا تتنقل منفردا فهناك خطر دائم من جماعة أبوسياف الإرهابية. جماعة أبو سياف هي جماعة جهادية انشقت عن جبهة التحرير الوطنية (جبهة مورو) عام 1991م، أنشأها عبد الرزاق أبوبكر جنجلاني بجنوب الفبيين بهدف إنشاء دولة إسلامية غربي جزيرة ميندناو حيث تقطن أغلبية من السكان المسلمين. القائد الحالي للمجموعة هو"غالب أندانج". يتوزع المئات من مجاهدي أبو سياف في جزر باسيلان، سولو، تاوي تاوي ويصل نشاطهم أحيانا إلي مانيللا. شاركت هذه الجماعة في عملية السلام بين الحكومة وجبهة مورو مطالبة بدولة إسلامية مستقلة. 
 
نشأت علاقتهم بالمجاهدين العرب عبر الطلاب الدارسين والعمال من المنتمين إلى الجماعة في الشرق الأوسط، ثم كوّنوا علاقات مع المجاهدين العرب أثناء التدريب والقتال في أفغانستان. تُكِن جماعة أبوسياف والمحيطين بها العداء للمسيحيين زاعمين أن المسلمين هناك يعانون من اضطهاد المسيحيين القادمين من الشمال والذين دفعت بهم الحكومة وساعدتهم لتغيير الخارطة السكانية في الجنوب المسلم، مرددين طوال الوقت أن الحكومة حرضتهم على قتل المسلمين وسلب أراضيهم، بل كوّنت منهم جماعات مسلحة لتحقيق هذا المطلب ومن ذلك جماعة الفئران وجماعة الأخطبوط. اتخذت الجماعة الغابة قاعدة لهم للتأهيل والتدريب والدعوة والجهاد حتى تكون جماعتهم دعوية جهادية : دعوية لتعليم المسلمين دينهم، وجهادية للوقوف ضد المسيحيين المدعومين من الدولة والدفاع عن المسلمين حسب زعمهم.
 
   قلت له يا صديقي لا تخشى عليّ من تلك الجماعة، فأنا قادر على الحديث معهم باللغة العربية التي يجيدونها وحينها لن يتعرضوا لي بسوء، ومع ذلك لن أكون بمفردي وأنا بينكم. المهم أن نبدأ في إجراءات السفر وأرجو أن تكون سُبُل السفر مريحة. قال: هناك وسيلتين للسفر، أولها الطيران وهي الأسرع وتستغرق ساعة أو يزيد ولكنها الأكثر تكلفة، وثانيها العبارة حيث الاستمتاع بالإبحار بين الجزر المختلفة ولكنها بطيئة تستغرق يومين على الأقل والأقل تكلفة. 
 
ذهبتا لأحد مكاتب السفريات لحجر تذاكر الطيران إلي مدينة بوتوان، تكلفة التذكرة 2500 بيسوس (حوالي 64$ كندي) لكنهم يعطون لكبار السن من الفلبينيين خصم 25%، ولا يحظى بها السائحون. استغرق السفر من مانيللا لبوتوان حوالي ساعة وربع. بعد ذلك إرتقينا حافلة من مدينة بوتوان للذهاب إلى مدينة بايوجان حيث منزل مرافقي، ورغم أن المسافة حوالي 44 كيلومترا إلا أن الحافلة قطعتها فيما لا يقل عن ساعتين، فالركاب القرويين يركبون الحافلة حاملين طيورهم ومزروعاتهم وكل من يصل قرب منزله يطرق علي سطح أو حائط الحافلة ليقف السائق، وبين كل وقفة ووقفة لا تتعدي الأمتار. وما يزيد الطين مبلّة العديد من الباعة الجائلين الذين بتخذون الحافلات سوقا لمبيعاتهم من البيض المسلوق والخبز وقارورات المياة والمناديل الورقية وقراطيس الفول السوداني والبسكويت والحلويات.
 
   وصلنا إلى منزل مُضيفي الذي يقع على الضفة الشرقية لنهر آجوسان. المنزل مشيد علي أعمدة من نخيل جوز الهند المغروزة في مياه النهر ومبني كله بألواح خشب جوز الهند، تحس وأنت جالس أو نائم فيه بحركة المياه تحت المنزل. بعد استراحة قليلة تناولنا وجبة من الأسماك اللذيذة الطازجة التي اصطادها أقاربه من النهر فور وصولنا. وفي صباح اليوم التالي استمتعنا بجولة نهرية علي قارب طوله حوالي ثلاثة أمتار وعرضه لا يتعدي النصف متر يسع أربعة راكبين خلف بعضهم البعض، وهو عبارة عن قطعة من جزع شجرة جوز الهند محفور داخلها ومسنن طرفيها وتعمل بموتور مثبت بها. كانت الجولة من موقع المنزل علي نهر أجوسان إلى الشمال حيث يصب النهر في خليج بوتوان والتجوال في بحر بوهول، جولة لمدة ساعتين ثم عدنا.
 
   قضينا عشرة أيام استمتعنا فيها تجولا في غاباتها ومنتجعاتها الجميلة أياما لا يمكن نسيانها وكان أغربها يوما دعيت فيه إلي مدينة
بروسبريداد (جنوب بايوجان) حيث دعينا لحضور مهرجان ثقافي يشارك فيه العديد من المشاهير من شتى بقاع العالم. عند دخولنا لقاعة المهرجان شاهدنا منصة مزينة بالزهور وبها مقعد مذهب كأنه عرش ملكي، ظننت أنه مخصص لأحد الملوك أو رئس لمنظمة عالمية أو عظيم من عظماء العصر، من باب الفضول سألت أحد المدعويين عن كنه من سيجلس على ذلك العرش بتلك المنصة فأجابني ووجه يشع بالبسمة والحبور أن ذلك العرش مخصص لأعظم حكيم أنجبته البشرية من جنوب شرق آسيا يدعي سيكو بماكو وهو معمّر تجاوز عمره 120 عاما، له أتباع ومحبين في كل أنحاء العالم، الحضور هنا من الهند والصين وكمبوديا واليابان حضروا لمجرد رؤيته، كلنا هنا في الانتظار بكل الشوق واللهفة حضور الحكيم سيكو. وبعد نصف ساعة دلف إلي القاعة وزير الثقافة السريلانكي، وأعلن وصول الحكيم وأنه خلال لحظات سيدخل القاعة من الباب الشرقي بجانب المنصة، اشرألت الأعناق وجحظت العيون وساد الصمت الرهيب انتظارا لدخول حكيم الزمان. بعد هنيهة دلف الحكيم إلى القاعة وهو يلوّح للجماهير بيده اليمنى والهدوء والسكينة بادية على محياه واعتلى العرش وظل صامتا لمدة نصف ساعة ثم انتصب واقفا وغادر القاعة في هدوء. دفعني الفضول والحيرة للتساؤل عن سبب حضور المئات من المريدين لمجرد مشاهدة وجه حكيمهم. وكان جواب أحد مريديه أن حكيمهم يتمتع بصفات عجيبة اهمها الصمت الدائم، فهولا يتحدث الا مرة واحدة كل أربعة شهور أي ثلاث مرات في العام. ويؤكد الحكيم ويؤيده أتباعه ومريديه أن الصمت قمة الحكمة لأنه يزيد مناعة الجسم ويقوي العقل والذاكرة ويقي من الأمراض ويطيل العمر.
 
   استشطت غيظا لضياع وقتي في تراهات وتفاهات وصحت في الحضور قائلا: تبا لكم ولحكيمكم المخبول يا ناقصي الإدراك والعقول. فانقض على الجميع ضربا وركلا وسبا، فصرخت من الألم لأستيقظ علي صوت أم العربي تضحك ملئ فيها على تفاهة أحلامي.