سحر الجعارة
هناك خلط شائع بين مصطلحين وجب الفصل بينهما: «التنويرى والمستنير».. فبينما التنويرى بالأساس تكوينه العقلى تنويرى ونقدى «ملهم أو حكيم إلى حد ما» وكلما اكتسب المزيد من العلم والمعرفة والوعى أصبح منارة تنوير.. ولا يشترط هنا أن يكون متديناً بالمعنى الاصطلاحى للخطاب الدينى أو يكون ملحداً أو لا دينياً، لكنه يمتلك خطاباً اجتماعياً يغير الأوطان إلى الأفضل.. وهو بالقطع مع جميع الحريات الدينية والاجتماعية والسياسية.. الشرط الأساسى والفارق المهم هنا أن «التنويرى» لا بد أن يشتبك مع المجتمع ويصطدم بدعاوى الرجعية الفكرية والظلام الدينى والانغلاق المجتمعى.. هو بالضرورة «فاعل ومشاغب وعنيد» متمرد بالفطرة، رافض لكل القيود.

أما «المستنير» فهو المتلقى للفكر التنويرى، هو ذلك الإنسان القابل للتنوير ولديه القابلية لنشر رسالة التنوير ونشر الوعى التنويرى، وأهميته لا تقل عن التنويري .. لأنه يزيد من عدد «الكتلة الحرجة» ويشتبك ولو شفاهة مع بعض القوى الرجعية من خلال السوشيال ميديا على سبيل المثال.

إذاً، الاستعراض الجسدى لا ينتمى للتنوير!!.. إنه بضاعة رخيصة للفت الانتباه والشهرة والنجومية بدعاوى مناهضة «تسليع النساء».. بينما من تروج له  هى نفسها «سلعة».. رفض الحجاب ليس مبرراً للعرى، ولا مناصرة الأقليات العرقية والدينية بالرقص.. هذه وسائل بدائية لأقدم مهنة فى التاريخ!.

خذ عندك مثالاً للمرأة التنويرية التى كانت أشجع وأجرأ من دافع عن قضايا النساء، الدكتورة «نوال السعداوى».. اختلفت كثيراً مع بعض أفكار «السعداوى»، لكنى كنت أحترم قدرتها على الصمود فى مواجهة مجتمع منافق يختبئ خلف عباءة «الإسلام السياسى» ويتمترس بمنظومة من القيم المزيفة التى تكرس نموذج «المجتمع الذكورى»، الذى يناهض حقوق الإنسان ليخفى هشاشة الرجال وضعفهم وسطوتهم الشرهة للاستيلاء على حقوق النساء، منذ الميلاد «تشويه الأعضاء الجنسية للمرأة»، مروراً بحرمانها من التعليم والعمل والميراث، وصولاً إلى تحريم صوتها ومصادرة وجودها لأنها «عار وعورة».. وكانت «نوال» فى القلب من المعركة: مقاتلة، شرسة.. كانت امرأة خطيرة على المجتمعات العربية.

الدكتور «نوال» لم تصبغ شعرها الأبيض، ولا ارتدت ملابس مكشوفة، بل نذرت حياتها للقضية التى آمنت بها.. يستحيل أن تنشر «فكرة» وأنت تفعل عكسها!.

نعم الفكرة سلوك، إن كنت تنهى عن زواج القاصرات فلا تكن مراهقاً وتتزوج طفله لتصبح من مرضى البيدوفيليا التى تعاديها.. إن كنت من أنصار «الولد لتحليل الـ DNA» فلا تستمتع بعلاقة عابرة وتتنكر لطفلك منها.. وقِس على هذا.

بعض من يدعى التنوير ويحسب نفسه على جبهة أطهر من أفعاله يعادى نفسه، يطنطن بالحديث عن الاتساق مع الذات وهو أول من يخون نفسه ومبادئه، وكأنه بألف وجه: فى البيت رجعى متشدد وفى العمل لعوب وعلى السوشيال ميديا فيلسوف الحياة وحكيم الزمان (!!).

لماذا أصبحنا نرى هذه الوجوه المسخ تزاحم تيار التنوير؟.. لأنه ببساطة جبهة مفتوحة لمن يملك القدرة على المشاركة، ليست حزباً مغلقاً على الأعضاء ولا نادياً اجتماعياً ولا مهنة لها ضوابط وعليها رقابة.. إنها مهمة تطوعية اختلطت برجال الدين الإصلاحيين والكتاب والباحثين فى الدراسات الإسلامية بحكم احتكاكهم المباشر بالبشر.. وعندما أغلقت «كورونا» علينا العالم كثر المدعون على السوشيال ميديا، إنهم يتاجرون بالتنوير تماماً كما يتاجر البعض بالدين.

فاحذروا المتاجرين بالتنوير وافرزوهم ببساطة: لم يسدد أحدهم «فاتورة أفكاره» وحده التنويرى الحقيقى من يدفع الثمن وهو باهظ لو تعلمون.
نقلا عن الوطن