بقلم / أشرف ونيس .
لا نألفها ولا نستسيغ حروفها ، تأخذها الرهبة و الخشية حين التطلع إلى نقاطها التى بدت و كأنها تيجان يتزين بها ملك قاس و حاكم متسلط على جنده قبل رعيته ، إنها أحرف خمسة تتناصب و تنتصب بجوار بعضها البعض كما لو يبدون مرتزقة مدفوعى الأجر ، لا يدرون من دنياهم سوى فنون التعذيب و أشكال الاضطهاد و صور الانتقام لمن يقع تحت طائلتهم و بين أيديهم ، ترهبنا طلتها و يزعجنا و لو حتى مرورها العابر ، كلمة تخيفنا و تشجينا ، تؤلمنا كما أنها تستأثر طاقة نفوسنا ، فيتهاوى كياننا كبناء أثاثه من رمال و أعمدته من طين .

ال " حرمان " ؛ ما أمهره و أقساه ، ما أبرعه و ما أغلظه ...... ، إنه الحكيم فى فنونه و الخبير فى قيامه بدوره ، الكمال يرتكن بين أعمال يديه ، و الحصافة تخضع لامرته و لاشارة أحد أصغر أنامله ، إنه و ليد الجبروت فى طلاقة قوته - الزمن - الذى جثا الجميع له من بداية الخط الذى تكونت في استقامته الخليقة من بدئها حتى نهايتها ، لا يوجد من توارى من وطأته التى رشف منها الكل ، ما من عاقل يأنسه أو حتى يألف ظل مروره ..... ، ما أصلبه حين عنَّف من أراد الهروب من انتشاب أخلابه التى لطالما أنَّ منها الكثيرون ، و ما أفظظه وقت أن لوَّح بقدومه و هبوب ريحه باعثا إرهاصاته فانخلعت خرز أحقاء المتصلبين فى زمانهم ، يحنى الهامات و يكسر القلوب ، الكل بلا استثناء عليه الخضوع له بكامل إرادتهم و رغبتهم مرغمين على الانحناء له و لقراراته و توقيتاته حين يبغى المكوث او الذهاب بلا عودة ...... الحرمان !

إنه بذار غُرِسَت بأرض حياتنا فنبتت و ترعرعت و صارت شجرة مر ، تفرز من علقمها و مرها فتتقزز منها حلوقنا ، و تتأفف من مر مذاقها غير المحتمل بشريتنا الهشة التى تتلوع تألما و هى فى أمس الاحتياج الى إشباع حاجاتها التى جُبِلت عليها ...... .

لكن من قال أن للمر هو طعمه المرير دون آخر ، و من أفتى أنه لا طائل ولا جدوى من نبتة الحنظل بطعمها المتعلقم التى تتوارى منه أجوافنا - الحرمان -  فاللمر طب و دواء ، ترياق و شفاء ، فهل المر دواء ؟! نعم .....

فهو أرض ينمو بخصوبة تربتها بذار النضوج و شيم الوعى و صفات الإدراك بوجهه الكامل البليغ ، ساحة السلوك الواعى و الوعى الذى منه السلوك المتبصر لعواقب الامور حين القرار و حين التصرف بمواجهة معتركات الحياة و منحنياتها الحادة المتصلبة ، فكم من حرمان أنضج شخصيات متكاملة لها هدوؤها الوقور و كلامها البليغ حين التحدث و حين الصمت ، حين الفصل و حين الاختيار بين مفترق الطرق و تحديد المصائر و الهدف الاخير الذى لا رجعة فيه ، فهو أعمار تضاف الى عمرنا ، و سنوات تتراكم الى سنواتنا ، فهو الشيخوخة فى رجاحة رأيها بخبرتها القديمة التليدة ، الحكمة و الصلابة بمرونتها المتفادية لتصلب وعورة الزمن التى ما أكثر ما حطمت و دمرت و هدمت نفوس غضة و نضرة ...... ، نبع لكل رزانة و مصدر لكل رشد و حصافة ، معين لا ينضب مياهه الاتزان فى رشادته و الحنكة فى أوج بنيانها ، الرصانة فى عظمتها ، و التدبر و التدبير فى سدادة رأيه و تصرفه ، الاتعاظ بقوة كلماته و الصرامة بهيبتها المهيبة المترفعة ...... إنه الحرمان و نتاجه ، العسر و ناتجه ...... الذى تأوه منه الكثيرون و شاد له الاكثر ، الذى قُبِر منه العديد بأرض قحولته  لكن نبتت بها بذار رجولتهم و غدو عظماء زمانهم و أوقاتهم و عصورهم ...... الحرمان !!!