كمال زاخر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
10 ـ الفضاء القبطى  : زحف الرهبنة واختلالات الأديرة (جزء 2)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اعادة هيكلة الذهنية القبطية الدينية ـ عبر الستة عقود الأخيرة ـ لم تكن عشوائية، وقد اجتمعت  عدة عوامل فى الفضاء العام هيأت مناخاً مواتياً لإعادة الهيكلة باتجاه رؤية قيادة الكنيسة فى تلك الحقبة، لعل أبرزها التغير الدرامتيكى عقب حدثى ثورة يوليو52، ورحيل جمال عبد الناصر وتولى انور السادات مسئولية الحكم، واللتان شهدا بدرجات متفاوتة حراك الجماعات الإسلامية الراديكالية، الخفى والمعلن، بدعم من الدولة، ومن قوى اقليمية سعياً لإعادة احياء وتحقيق حلم الخلافة، وكانت هذه الجماعات ترى فى الأقباط عائقاً أمام اكتمال الحلم، فاستهدفتهم بأعمال ارهابية، سواء فى مرحلة وفاقها أو مرحلة اختلافها معه، ورغم مغازلة الرئيس مبارك لهم، إلا أنها استمرت بامتداد سنوات حكمه الثلاثين فى ترويع الأقباط واستهدافهم.

كان من الطبيعى مع تغول العنف الطائفى وتصاعده أن يبحث الأقباط عن ملاذ آمن، وجدوه داخل اسوار الكنيسة، والتى لم تكن تملك إلا أن تشرع أبوابها لأبنائها، لكن الأمر لم يكن بهذا التبسيط والنموذجية، فأصحاب الأدوار الرئيسية كانت لهم رؤيتهم والتى اختلط فيها الخاص بالعام، سواء فى الدولة أو الكنيسة، وقد انعكس هذا على تصاعد الأحداث فى تلك الحقبة، وبغير ترتيب جاء لجوء الأقباط للكنيسة مرضياً لأطراف عديدة.

صنع الأقباط لهم داخل الكنيسة مجتمعاً بديلاً، لكنهم لم ينفصلوا عن وطنهم ولم يتحولوا إلى "جتو" منعزل، ورفضوا كل دعوات الإنفصال أو الهجرة، ولم يستسيغوا تجربة المحاصصة أو الكوتة الباهتة فى تمثيلهم داخل البرلمان، وقد قفز عليها الانتهازيون فكان مآلها الفشل.

غير بعيد كانت الحركة الرهبانية تشهد ازدهاراً ونمواً، بعضه انبهاراً بمجازفة الرعيل الأول، وبعضه اقتناعاً بأنهم يضعون اقدامهم فى طريق الملكوت، باعتبار الرهبان بحسب القديس يوحنا كاسيان (360 ـ 435 م) "ملائكة ارضيين وبشر سمائيين".

فى مقابل هؤلاء هناك من قصد الرهبنة هرباً من البطالة، أو باعتبارها الطريق الوحيد للدرجات الاكليروسية العليا، وبعضهم رتب لذلك مع قيادات كهنوتية نافذة أو بدفع منها، وبعضهم جاءها هربا من خبرات انسانية فاشلة. ولا أحد يستطيع أن يجزم بأن الأخيرين كانوا بعيدين عن الإختيار للمواقع الأسقفية. ومن لم يقع عليه الاختيار بقوا داخل اسوار الأديرة يعانون من العديد من المتاعب النفسية وأربكوا الأديرة بصور شتى. خاصة مع اختلال مفهوم التلمذة والتسليم، وربما غيابهما.

الواقع يقول بأن الأديرة، فى أغلبها، صارت مؤسسات منتجة لم ينتبه القائمون عليها إلى ضرورة ضبط هذا الازدهار والنمو بحزمة من الضوابط حتى لا تفقد هويتها ونذورها الأساسية. خاصة مع طوفان قاصدى الأديرة للتبرك أو طلباً لخلوة استجمامية، واستباحة خصوصية الرهبان، وتنامى ظاهرة "الاعتراف على اباء كهنة رهبان" وما افرزته من نتائج سلبية للكافة، الكنيسة والدير وطرفى الاعتراف.

مع انتظام خطوط السياحة الديرية وكثافتها، تشهد مداخل الأديرة خليط من منافذ توزيع منتجات الدير وايضاً ما يحتاجه الزوار من منتجات يعرضها الدير لحساب منتجيها من خارجه، من هدايا تذكارية دينية، صور قديسين وتماثيل ووتحف فنية برعت الصين فى انتاجها، واختفت الكتب الروحية واللاهوتية أو كادت، لتكتظ المكتبات هناك بكتب معجزات وسير قديسين كثيرها غير محقق، لكنها تلقى اقبالاً لا ينقطع، ومعها يستنزف العقل القبطى، وتستغرقه الحكاوى ولا أقول الخرافة.

وتتسلل الى البيوت افكار شبه رهبانية، حتى إلى شباب الكهنة والخدام، وكنا قد اشرنا قبلاً إلى عدة ملاحظات لما تسلل الى شباب الكهنة، سواء فى الشكل أو المضمون، اطلاق اللحى بدون تهذيب، اشارة بعضهم الى بتوليته هو وزوجته، وما تحمله من تعظيمها على الزواج، رغم ايضاحات القديس بولس الرسول القاطعة بعدم افضلية أحدهما على الأخرى ـ ولا يقلل هذا من توقيرنا لأصحاب هذه الخبرة الحياتية الخاصة بهم ـ ويقع الشباب فى شيزوفرينا حادة بين احتياجاتهم وما يتسلل إليهم من افكار لا محل لها خارج الحياة الديرية، وقد ينتهى بهم الأمر إلى التمزق او النكوص او الغيبوبة الروحية، ويهتز عند كثيرين مفهوم الزواج والعائلة والحياة الاجتماعية بجملتها، والشاهد على ذلك تفشى ظاهرة الطلاق والمشاكل الزوجية العنيفة وغير قليل منها بين خدام وخادمات، وبعضهم قضى اسبوعه الأول فى الدير؛ الزوج فى اديرة الرهبان والزوجة فى اديرة الراهبات!!. الأمر جد خطير.

وتسلل إلى المجتمع الكنسى، رعية وخدام وكهنة، ظاهرة "الميطانيات"، ويقصد بها بحسب تعريف كتاب "مُعجم المصطلحات الكنسية" للأب القس أثناسيوس المقارى:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1ـ الميطانية هى التوبة، وبحسب معناها الحرفى فى اليونانية هى "تغيير الفكر"، أى "تجديد الذهن" حسب قول الرسول بولس "تغيروا عن شكلكم بتغيير اذهانكم" ـ رومية 12 : 2 ـ أما فى اللاتينية فالكلمة المقابلة هى penitentia، وهى تفيد معنيين: المعنى الأول penance أى عقوبة توقع على الخاطئ نتيجة لخطيته حتى تقبل توبته. لمعنى الثانى penitence أى ندم وتأسف على الخطية كعمل ضد محبة الله، وتبدأ التوبة بالاعتراف أمام الله بالخطية فى مخدع الصلاة، وتكتمل بالاعتراف بالخطية شفاهاً على أب كاهن مختبر فى الكنيسة.
والتوبة فى الكنيسة ـ وفى اختصار ـ هى حياة مستمرة ترتبط حتماً بالمعمودية، وتصب فى الإفخارستيا، وتنمو بكلمة الإنجيل. أى أن أساس كل توبة هو المعمودية، وغايتها هى الإفخارستيا، وديمومتها تكون بقراءة منتظمة للإنجيل المقدس.

2ـ الميطانية هى السجود الكامل إلى الأرض حتى تلامس الجبهة التراب، وهى علامة تسليم الحياة كلها لله.)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الميطانية بالأساس ممارسة رهبانية تعبر عن روح الخضوع بعضهم لبعض، لكنها عندما تسللت إلى المجتمع القبطى خارج اسوار الأديرة صارت تستخدم كعلامة إكرام وخشوع تقدم لبيت الله، والمذبح المقدس والأيقونة المدشنة، ثم أضيف اليها فى الزمن الذى نتناوله تقدم للأسقف (!).

واستأذنكم فى إيراد واقعتين عشتهما، الأولى كنت فى المرحلة الثانوية، وكانت مدرستى ملاصقة لمقر اقامة البابا كيرلس السادس، وكان بابه مفتوحاً لاستقبال من يقصده من العامة، ذهبت الى صالونه الذى يقع فى الدور الأول على يسار باب المقر، وجدت أمامه طابور من صفين واحد للرجال والشباب والأخر للسيدات والفتيات، وحين وقفت أمامه وجدت من سبقنى يسجد أمام البابا، فسجدت مثله، فإذا بالبابا يسألنى "بتعمل إيه؟" اجبته فى تلقائية "وجدت الرجل الذى سبقنى يفعل هذا فظننت أنه من تقاليد مقابلة قداستكم"، فقال بحزم "يعنى بتقلد زى القرد؟" قم ولا تفعل هذا مرة أخرى"!.

أما الواقعة الثانية فقد حدثت فى الاسكندرية، فيما اتذكر، فى مؤتمر للشباب والخدام، عقده البابا شنودة لمواجهة بعض الأفكار التى تهاجم بعض ممارسات الكنيسة الطقسية واتذكر أنها كانت تفند الصلاة بالأجبية، وفى احدى جلسات المؤتمر جاء سؤال عن الميطانية، وتوقيتاتها، فأحال البابا السؤال الى الأنبا يوأنس، اسقف الغربية وقتها، الذى عرفها بما لا يختلف عن التعريف السابق ذكره، وأضاف أنها تمارس طوال العام، باستثناء وقت ما بعد التناول، وكذلك لا تمارس فى أيام الخمسين المقدسة، فالحدثين هما حالات فرح. فيما الميطانية تحمل مشاعر حزن وندم وانكسار، فعقب البابا بأن الميطانية للأسقف تقدم فى كل الأحوال ولا يستثنى فيها أية أوقات، لأنها تعبر عن الاحترام وليس العبادة (!).

تسلل بعض الممارسات الرهبانية إلى المجتمع القبطى، خارج الأديرة، اسهم فيما نراه من ازدواجية وانفصام انعكست سلباً على حياتنا اليومية.
ومازل شريط لمشاهدات الإكليروسية يحمل الكثير منها.