وضع ارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات قياسية في معظم اقتصادات العالم بما فيها المتقدمة، البنوك المركزية أمام خيارين أحلاهما مر، لتتخذ قرارها برفع معدلات الفائدة في محاولة للسيطرة على ارتفاع الأسعار وتهدئة الإنفاق، مع إدراكها أن هذه الخطوة ستؤدي إلى تراجع النشاط الاقتصاد وربما الوقوع في براثن الركود.

 
ووفقاً لأحدث البيانات، فإن معدل التضخم ارتفع في المملكة المتحدة إلى أعلى مستوى له منذ 40 عاماً عند مستوى 10.1 بالمئة في يوليو الماضي، كما يستمر التضخم في منطقة اليورو في الارتفاع ليسجل معدلات قياسية، إذ بلغ 8.9 بالمئة في يوليو الماضي، في حين سجل التضخم في الولايات المتحدة خلال يونيو الماضي 9.1 بالمئة وهو أعلى مستوى له منذ 41 عاماً.
 
ويرجع الخبير الاقتصادي الدكتور عبدالله الشناوي في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" الدوافع الأساسية لارتفاع معدلات التضخم في العالم إلى توقف أو اختناق سلاسل الإمداد بسبب تدابير الإغلاق والقيود على حركة التجارة التي أحدثتها وباء كورونا العالمي، والتحول الحاد في طبيعة الإنفاق الاستهلاكي من الإنفاق على الخدمات إلى الإنفاق على السلع، والتأثيرات السلبية للحزم المالية المقدمة لمكافحة كورونا والتي تمثلت في استغلال الأسر للمدخرات التي قامت بمراكمتها ما أحدث زيادة مفاجئة في الطلب الكلي، إلى جانب انخفاض نسب المشاركة في قوة العمل، وتأثر إمدادات الطاقة والغذاء نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية.
 
 ترويض التضخم
ومع تزايد حدة الضغوط التضخمية أدركت البنوك المركزية في معظم دول العالم الحاجة إلى التحرك فاندفعت بطريقة متزامنة تقريباً إلى رفع معدلات الفائدة وبسرعة لترويض التضخم المتصاعد، ومحاولة السيطرة عليه، وهذا يهيئ الاقتصاد العالمي للانحراف نحو ائتمان أكثر تكلفة وتدني قيم الأسهم والسندات وربما يؤدي إلى تراجع حاد في النشاط الاقتصادي، وفقاً للدكتور الشناوي، الذي أكد أن ارتفاع معدلات الفائدة في جميع أنحاء العالم يجعل الأموال التي كانت رخيصة أكثر تكلفة للاقتراض وكذلك يقلل الطلب، ما يثير المخاوف بين المستثمرين من تباطؤ الاقتصاد العالمي بشكل حاد والخوف من أن تجد بعض الدول نفسها غارقة في الركود المؤلم.
 
احتمالات الركود
يتوقع صندوق النقد الدولي تباطؤ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي من 3.2 بالمئة في عام 2022 إلى 2.9 بالمئة أو 2 بالمئة خلال عام 2023 مع معدل نمو صفري تقريباً في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية خلال عام 2023.
 
ويرى الخبير الاقتصادي الدكتور الشناوي أن "التضخم عند مستوياته الحالية يُشّكل خطراً جلياً على استقرار الاقتصاد الكلي الحالي والمستقبلي، فالعالم (وخاصة الاقتصاد الأميركي) يواجه ضغوطاً إضافية من ارتفاع أسعار الطاقة والحبوب والمزيد من الاضطرابات في سلاسل التوريد حيث يفرض "COVID-19 " عمليات إغلاق جديدة في الصين، ومن غير المرجح أن يتم حل مشكلة التضخم بدون تباطؤ اقتصادي كبير".
 
وبحسب الشناوي، فإن "الجمع بين الاقتصاد المحموم وارتفاع معدلات الأجور، وتباطؤ السياسة النقدية وكذلك صدمات العرض الأخيرة تعني أن الركود في العامين المقبلين سيكون بالتأكيد أكثر احتمالاً من عدمه، ولذلك يأمل الاحتياطي الفيدرالي في هبوط ناعم للاقتصاد الأميركي وتقليل تأثير الركود عن طريق ترويض التضخم السريع دون التسبب في ارتفاع البطالة أو التسبب في الركود، لكن يمكن القول أن هندسة الهبوط الناعم أمر بعيد الاحتمال حيث توجد احتمالية كبيرة بحدوث ركود في المستقبل القريب".
 
بين خيارين سيئين
من جانبه، يقول الخبير الاقتصادي علي الحمودي لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "الركود سيء والتضخم سيء، لكن البنوك المركزية تجازف في إدخال الاقتصاد في ركود عبر التحكم بأسعار الفائدة التي تعد أداتها الرئيسة للسيطرة على التضخم عن طريق الضغط على الأسر والشركات حتى يتوقفوا عن الإنفاق كثيراً، وهذا بالنسبة لها أهم أو أفضل من الاستمرار في نسب تضخم مرتفعة على المدى الطويل، لأن استمرار التضخم لمدة طويلة قد يصبح حالة عادية من الصعب الرجوع عنها مستقبلاً".
 
ويوضح الحمودي أن الاقتصادات المتقدمة تلجأ إلى رفع الفائدة كي لا يتمكن التضخم منها كما يحصل في الاقتصادات التي لا تتمتع بإدارة جيدة لسياستها النقدية والمالية مثل بعض الدول في أميركا الجنوبية ومنطقة الشرق الأوسط التي تعاني من ارتفاع مستويات التضخم، مشيراً إلى أن نسب التضخم المرتفعة تخنق الاقتصاد والاستثمارات على المدى الطويل، بينما الركود في حال حصل نتيجة رفع أسعار الفائدة فمن الممكن أن يخرج منه الاقتصاد مع قليل من الوقت.
 
فالركود إذا استمر على مدى ربعين من السنة على سبيل المثال من الممكن أن يبدأ الاقتصاد بالتحسن في الربع الثالث حتى أنه يمكن أن ينتقل إلى النمو في الربع الأخير من السنة، لكن إذا تسمك التضخم بالاقتصاد فمن المرجح أن يبقى لسنوات إلى جانب حدوث الركود، وفقاً للخبير الاقتصادي الحمودي.