قام بعرض الكتاب
ماجد كامل

تتميز كتابات المفكر الراحل  الكبير الدكتور جابر عصفور  .  بالإستنارة العقلية ؛فهي بمثابة سلاح موجه ضد جميع قوي الجهل والتخلف ؛ومن بين كتاباته القيمة في هذا المقال نذكر  كتاب " التخلف'>نقد ثقافة التخلف "الصادر  عن مكتبة الأسرة 2009؛والكتاب أصلا تجميع لمجموعة من المقالات التي كتبها في عدد من الدوريات العربية ؛وجميع هذه المقالات موجهة للرد علي العديد من الأفكار الرجعية المتشددة التي ظهرت في مصر في الفترة الأخيرة ؛ ونراه يؤكد علي هذه الحقيقة في المقدمة إذ يقول "منذ سنوات بعيدة ؛وأنا مهموم بقضايا التخلف والتقدم ؛خصوصا في المجالات الثقافية التي لا تزال تشغلني أكثر من غيرها ؛ولذلك كان اهتمامي بثقافة الاستنارة والعقلانية والحرية الفكرية والإبداعية ؛ والتسامح لا التعصب ؛والاحتفاء بالقيمة التي تؤكد آفاق التقدم الواعدة ؛هو الدافع إلي تأليف كتب من مثل "هوامش علي دفتر التنوير" – 1993 ؛وأنوار العقل" – 1996 ؛وآفاق العصر" -1997 ؛أوراق ثقافية- 2003 ؛ و"مواجهة الإرهاب" -2003 ؛والاحتفاء بالقيمة" – 2004 .ولقد تم تجميع المقالات علي عدة محاور ؛المحور الأول بعنوان"أصول تراثية " ويحتوي عدة مقالات حول "اضطهاد الأنثي" و"ثقافة الاتباع "و "التهوس بالماضي" والعداء للآخر " المحور الثاني بعنوان "خطاب العنف" ويتناول فيه قضايا "حرية التعبير" و"العداء للفنون"و "فتوي صادمة " وجاء المحور الأخير بعنوان "الإسلام دين ودولة" ويتناول فيه مخاطر الدولة الدينية . وفي هذا العرض سوف نعرض لبعض هذه المقالات التي تظهر فكره المستنير وذلك بقدر ما تتيحه المساحة المتاحة من العرض ؛ ففي مدخل الكتاب  يؤكد المؤلف أن ثقافة التخلف تقترن بالمجتمعات الساكنة ؛الثابتة ؛المعادية للتغير ؛ والخاصية الأولي لهذه الثقافة أنها تنكفيء علي ماض متخيل ؛لا تكف عن استعادته محاكاة وتقليدا واتباعا ؛ وتبالغ في تقديسه بما يجعل منه إطارا مرجعيا في كل شيء قائم وكل شيء قادم ؛فالماضي هو نقطة البدء ؛والمستقبل يظل غامضا ؛ لا تفكير فيه إلا بمنطق ما سبق وقياسا عليه ؛ ومكانة  المرأة في المجتمعات المتخلفة مقموعة إلي أبعد حد ؛فهو يجعلها حليفة الشيطان ؛ومصدر الفتن ؛ولا يري فيها سوي جسد يغوي وفريسة لا بد من ترويضها وقمعها بأشد أنواع المراقبة والعقاب ؛وخير نموذج يشرح ذلك الأمر هو حركة طالبان في أفغانستان التي فعلت بالمرأة ما فعلت فنقبوها وحرموها حتي من حق التعليم ؛معطلين بذلك نصف المجتمع الذي لا يمكن أن يتقدم المجتمع إلا به ؛ بل لا يقاس أي تقدم أي مجتمع إلا بالمكانة التي تمنحها للمرأة ؛والخاصية الثالثة التي يقوم ثقافة التخلف هي العنف والاستيلاء علي السلطة بالقوة  التي تظل حامية للدولة ؛ويسود فيها الانتخابات الصورية التي لا معني لها ؛ ولا تعرف الدساتير ٍبمعناها الحديث ؛ويترتب عليها تجميد الحقوق المدنية وإلغاء الحقوق الإنسانية ؛وعدم الاعتراف العملي بالمواثيق الدولية التي تهدف إلي تأكيد هذه الحقوق وصيانتها . والخاصية الرابعة التي تتميز بها ثقافة التخلف هي إقحام الدين في كل شيء سواء في نظم الحكم أو في العلوم أو الفنون أو الآداب  ؛  و في مقال بعنوان "الفضل للمتقدم" يهاجم الكاتب  هذه الظاهرة " تديين كل شيء"  ؛ويري ان هذه الظاهرة أقترن بها مجموعة من المباديء القمعية نذكر منها :-

1- غير مسموح بظهور أي علم إلا علي سند واضح وصريح من الدين؛بعيدا عن أي احتمال مفتوح لإمكان استقلال العلم بموضوعه ومنهجه

2- محاولة وضع العلوم في ترتيب معين يضع فيه  العلوم الربانية في المقدمة والعلوم الإنسانية في المؤخرة ؛ الأمر الذي يعد بمثابة قيد صارم علي حركة العلوم المدنية ؛وعلي حرية الآداب والفنون

3- العداء للنزعات العقلية والتجريبية التي يمكن أن تقوم عليها العلوم المدنية وتقوي بها الآداب والفنون

4- العداء للجديد في أي علم ؛أو إبداع خصوصا ما يهدد منها الأنساق الثابتة والتقاليد الجامدة

5- وصل العداء للجديد في العلم إلي حد العداء للعقل بوجه عام ؛وانتقل هذا العداء للخيال أيضا فأنزله منزلة "الهلوسة"  ؛فيغدو كل من العقل والخيال في دائرة النبذ التي لم يكف عنها أصحاب النزعة الماضوية "اي رد كل شيء إلي الماضي وحده "

6- تأويل النصوص الدينية بما يهدف إلي تقييد حركة العقل والخيال معا ؛وبذلك أصبح حق الاختلاف قرين المعصية الفكرية والضلالة الدينية التي تؤدي إلي الهلاك ؛ وأصبح شعار "من تمنطق قد تزندق" هو السائد .


وفي مقال آخر بعنوان "تكفير علوم الآخر "  وفيه يؤصل المؤلف لظاهرة العداء للعقل والفلسفة ؛فيستشهد بنص لأحد الفقهاء يدعي ابن الصلاح (توفي عام 634 هـ ) قال فيه "الفلسفة أس السفه والانحلال ؛ومادة الحيرة والضلال ؛ومثار الزيغ والزندقة ؛ومن تفلسف عميت عينه عن محاسن الشريعة المطهرة ؛ المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة . ومن تلبس بها تعليما وتعلما قارنه الخذلان والحرمان ؛واستحوذ عليه الشيطان ..... وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة ؛ومدخل الشر شر .وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع ؛ولا أستباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسلف الصالح وسائر من يقتدي به من أعلام الأمة وسادتها .وأما استعمال الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية فمن المنكرات المستبشعة ؛والرقاعات المستحدثة ...... ومن زعم أنه يشتغل بالمنطق والفلسفة لفائدة يزعمها ؛فقد خدعه الشيطان ومكر به .فالواجب علي السلطان أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المياشيم (الذين يخلطون الحق بالباطل) ؛ويخرجهم من المدارس ويبعدهم ؛ويعاقب علي الاشتغال بفنهم ."  وكان من نتيجة مثل تلك التعاليم أن تأسست تقاليد راسخة لقمع حرية التفكير  لا تزال قائمة للأسف علي امتداد عالمنا العربي الذي هو عالم قمع الآخر وتكفير المختلف  . وفي نفس السياق يوجد مقال بعنوان "أين حرية التعبير؟ " بدأه المؤلف بعبارة شهيرة للكاتب الراحل الكبير يوسف أدريس ( 1927- 1991 ) قال فيها "إن كل حرية التعبير المتاحة في العالم العربي لا تكفي كاتبا واحدا لمارسة إبداعه بشكل كامل ؛ بعيدا عن القيود المتعددة التي يفرضها علي الكتابة الاستبداد السياسي والتصلب الفكري والجمود الاجتماعي والتعصب الديني " وقد مضي علي عبارة يوسف أدريس ما يزيد عن عشرين عاما ؛وقد تزايد القمع الفكري والمصادرة السياسية ؛ فلقد صدر حكم بالتفريق بين  المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد وزجته  بعد سنوات قليلة من وفاة يوسف أدريس ؛ وبالتحديد في 14 يونية 1995 ؛ وقبلها تعرض الكاتب الراحل الكبير الاستاذ نجيب محفوظ

 (1911- 2006 ) لمحاولة اغتيال فاشلة في 14 اكتوبر 1994 ؛ وأمتدت  دعاوي التكفير إلي الجرائد والمجلات مثل دعوي "الحسبة" المرفوعة ضد مجلة روز اليوسف ؛ودعوي أخري ضد أستاذ الفلسفة المعروف  المرحوم الدكتور عاطف العراقي بتهمة الخروج عن صحيح الدين ؛ ؛ورفعت دعوي حسبة أخري  ضد الشاعر الكبير الأستاذ أحمد عبد المعطي حجازي ؛ودعوي تكفير ضد المرحوم  الدكتور حسن حنفي في يونية 1997 ؛ وفي نفس الفترة تم تقديم كتاب  المرحوم الدكتور سيد القمني "رب الزمان" إلي محكمة شمال القاهرة الابتدائية فحكم القاضي بتبرئة الكاتب في سبتمبر 1997  . ويذكر المؤلف هذه العبارة القوية التي كتبها عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين (1889- 1973  ) في كتابه الرائد "مستقبل الثقافة في مصر "إذ يقول "الأدباء عندنا ليسوا أحرارا بالقياس إلي الدولة ولا بالقياس إلي القراء . وما أكبر النبوغ الذي يضيع ويذهب هدرا لأنه يكظم نفسه ؛ ويكرهها علي الإعراض عن الإنتاج خوفا من الدولة ؛أو خوفا من القراء ؛فليس كل موضوع يعرض للأديب عندنا تسيغه القوانين ويحتمله النظام ويرضي عنه ذوق الجمهور "

وفي سلسلة أخري من المقالات تناول المؤلف قضية وضع المرأة في العالم العربي ؛ فلا يزال نظرة الرجل الشرقي إلي المرأة انهن ناقصات عقل ودين ؛ وانتشرت العديد من الأقاويل التي تؤكد علي تسفيه النساء مثل " شاوروهن وخالفوهن "و"النساء شر كلهن"  و"لاتثق بأمرأة" و"من أطاع عرسه فقد أضاع نفسه " و"ذل من أسند أمره إلي أمرأة " و"لا تطلعوا النساء علي حال ولاتأمنوهن علي مال " ومن الطبيعي في ظل ذلك الكم الهائل من التراث الثقافي المتدني لنظرة الرجل الشرقي للمرأة ؛ أن يستنكر الوعي الذكوري العام ؛ ولو علي المستوي اللاشعوري ؛ترقي المرأة ووصولها إلي أعلي المناصب وذلك جنبا إلي جنب القيود الاجتماعية المفروضة علي إبداع المرأة وإنتاجها الفكري في معظم البلدان العربية ؛ ولذلك فأن نسبة المبدعات من النساء أو المشتغلات بالفكر أقل بكثير من نسبة الرجال  ؛كذلك فأن العديد من الأنمظمة التعليمية في بلادنا مازالت تكرس التمييز بين الرجل والمرأة ؛وتؤكدها  الموروثات التقليدية الجامدة ؛لذلك تحتاج مناهج التعليم  عندنا إلي تثوير جذري علي كل المستويات ؛والظاهرة الملحوظة كذلك في المجتمعات العربية هي أن مشاركة المرأة في النشاط الثقافي العام أقل بكثير من مشاركة الرجل بسبب النظرة السائدة إلي تدني دور المرأة ؛سواء من ناحية الأفكار التي تلقي عليها وحدها أعباء العمل المنزلي وتربية الأبناء حتي ولو كانت أمرأة عاملة ؛ أو منظور أفكار التطرف الديني التي تنظر للمرأة أنها عورة ولا تري فيها سوي جسد يثير الفتنة ويهيج الغريزة . وفي نفس السياق وفي مقال آخر بعنوان "تنكير الأنثي"  يذكر المؤلف الأبيات التحذيرية التي تستهل بها قصص ألف ليلة وليلة  حكاياتها الألف وهي :-

لا تأمنن إلي النساء                                    ولا تثق بعهودن
يبدين ودا كاذبا                                         والغدر حشو ثيابهن
بحديث يوسف فاعتبر                                   متحذرا من كيدهن
أو ما تري إبليس أخرج                                  آدما من أجلهن

وفي العديد من كتب التراث العديد من الأخبار والمرويات التي تحول بين المرأة وتعلم الكتابة  كما لوكانت الكتابة حكرا علي الذكور وحدهم ؛فيذهب أبو بكر الصولي ( توفي عام 335هـ) ويقول " إن أهل النبل من الناس وذوي الرأي منهم يكرهون تعليم الخط للنساء ؛ وينهون عن دخولهن إلي عالم الكتابة "  بينما يذكر القلشقندي (توفي عام 821 هـ)  ويقول "إن أصحاب الشافعية يشترطون في كاتب القاضي أن يكون ذكرا " كذلك يذكر عن جرير الشاعر الأموي ( توفي عام 110هــ ) حين بلغه أن شعرا أعجب به كتبته أمرأة أن قال " إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فأذبحوها "

وفي مجال العداء للفنون تناول المؤلف الجدل الذي أثير حول فيلم آلام المسيح" و"بحب السيما" و"شفرة دافنشي" كذلك الجدل الذي أثير حول فتوي منع إقتناء التماثيل في البيوت وقام بالرد عليها وتفنيدها.