بقلم / فيفيان سمير
لحظة توقفت فيها الأرض عن الدوران ورأيت نهايتي تبرق أمام عيني، حين خرجت كلمات الطبيب كطلقات الرصاص من فمه، يخبرني أن تلك الكتلة الصلبة التي تنمو بصدري، هي ورم خبيث بنسبة كبيرة، نظرا لتاريخ عائلتي، فقد سبقتني إليه أمي وأختي، ويجب أخذ عينة منه للتأكد، وقد كانت النتيجة شبه محسومة، وعلى أن أهيئ نفسي لبرتوكول العلاج التقليدي، والذي يبدأ باستئصال الثدي ثم الخضوع لجلسات العلاج الكيميائي والإشعاعي.

رغم يقيني التام أن ذلك اليوم أت لا ريب، إلا أنني لم أتمالك نفسي، انهرت تحت تأثير مواجهة ذلك الوحش وجها لوجه، فالمعرفة شيء ولهيب الحقيقة حين تلحفك واقعا كصفعة مباغتة شيء أخر تماما. صورة أمي وهي تذوي يوما بعد يوم لازالت عالقة بذاكرتي، جسدها الذي تهاوى فاقدا أنوثته، شعرها الذي طالما استمتعت بتمشيطه وأنا صغيرة وقد تساقط، تشوهات الحروق العميقة والمؤلمة على ذراعيها، الطعام الذي لم يكن ليستقر بمعدتها بل كان تناوله مهمة شاقة، وكمية المسكنات الهائلة التي كانت تستجير بها لتحمل الألم الذي لا ينتهي، كذلك جمال أختي الذي نهشه بضراوة حتى سلبها الحياة قبل أن تغادرها، وزوجها الذي لم يحتمل انهيارها الجسدي والنفسي وتركها، فريسة لشعور الوحدة والترك والعزلة لا يرافقها سوى الألم، فما فعل الموت إلا أنه جمع أشلاءهما وذهب، بعد أن أسلما الروح لجبروت المرض قبل الموت.

خرجت وأنا أسير بلا وعي كنت محتاجة بشدة أن أتنفس، فقد شعرت أن حجرا ثقيلا ألقى على صدري يمنع عني حتى الهواء، تفكيري مشوش وعقلي عاجز عن العمل كلية. جلست لساعات على شاطئ البحر، أستعيد رحلة حياتي القصيرة رغم طولها، فهناك الكثير الذي لم أحققه من أحلامي التي ظلت مؤجلة، حتى واقعي لم أعيشه كما يجب، كم مرة أراد زوجي أن نخرج سويا، أن نتحدث، أن نسهر، أن نكون فقط معا، وكنت مشغولة أو متعبة فلم نفعل، بل أتهمته أنه لا يشعر بحجم تعبي ومسؤولياتي مع أبنائنا، كم مرة أراد أن نسافر بمفردنا بعيدا عن الدنيا والمشاكل، ورفضت وأتهمته بالصبيانية والتفريط في مصلحة الأولاد فلم نفعل، كم مرة أردت احتضان أبنائي لكن غضبي من تصرفاتهم ورغبتي بتأديبهم، جعلتني لم أفعل، كم مرة دعتني صديقاتي للالتقاء واعتذرت، كم تصرف رغبت في فعله وحسبته ألف مرة فلم أفعل، كم مغامرة أردت خوضها ومنعني حسابات المجتمع والناس فلم أفعل، والان وأنا على شفى الرحيل أدركت أن هناك الكثير الذي أرغب في أن أعيشه وربما لا أجد الوقت الكافي له.   

رأيت وجه زوجي وأولادي يرتسم على صفحة المياه، يعتصرهم الألم ويحتل الخوف ملامحهم، لم نصنع ما يكفينا من حلاوة الدنيا بعد، قررت تأجيل مواجهة قاتلي قليلا مهما كانت النتائج، فأنا لن أموت قبل موعدي المحتوم، إذا فلأجمع بعضا من جمال الحياة ربما أعانني في حربي القادمة، لن أخبر زوجي وأولادي الان.

اشتريت بعض الملابس الجديدة بألوان زاهية، غيرت لون شعري وتصفيفته، وحجزت رحلة لجزر اليونان، كان زوجي يرغب بها منذ سنوات، قبل أن أعود لمنزلي. عقدت الدهشة لسان زوجي حتى أنه ظل يتأملني دون أن ينطق، وأخيرا سألني عما حدث وسبب ذلك الانقلاب. كانت ضحكتي صافية وصادقة وأنا أخبره أن أبنائنا كبروا واستقلوا بحياتهم، وآن لنا أن نستمتع بما تبقى من أيامنا التي سرقها الزمن.  

قبل السفر أعددت وليمة لأبنائي، حرصت على أن يكون بها كل الأصناف التي يحبونها من يدي، تأملتهم لأحفظ أدق تفاصيل ملامحهم، كبروا، صاروا رجالا وسيدات يبهجوا الناظر إليهم، مازلت أذكر أيديهم الصغيرة وأشعر بها على صدري، وجوههم البريئة ونظرات عيونهم وهم بأحضاني، وأولى خطواتهم التي خطفت قلبي، اليوم احتضنتهم كثيرا، قبلتهم مرات ومرات، قلت كل كلمات الحب التي ربما لم أقلها إلا في المناسبات، كم كانت أحضانهم دافئة ولمساتهم مختلفة، اكتشفت أنى أهدرت زمانا وأنا أفعل كل شيء باستعجال، وقبل أن يترك بصمته بروحي، لم أعطي للحب وقته الكافي ليرسم أثاره بدقة على جدران أيامي، كنت أركض حتى وأنا أحب، سواء زوجي أو أولادي لم أستمتع بحبهم بما يكفي، أدركت أن هناك ما هو أهم من المنزل النظيف والملابس المهندمة والتفوق الدراسي والتربية النموذجية، هناك طعم الحياة ومتعة ممارستها، هناك دقائق يجب توثيقها بقلوبنا فهي كنزنا الحقيقي في مواجهة الشدائد، هذه المرة كنت أمارس فعل الحب بتمهل لأستطيب مذاقه، لأختزنه وأحتفظ به بذاكرة مشاعري.

نسيت شبح المرض وغاب عني ظل الموت، قضيت شهرا في الجنة التي لم أعرفها قبلا، ولم أعرف أن بيدي صنعها، إلا وأنا على مشارف الرحيل. ملأت خزائني بالأوقات الطيبة، والتقطت لذاكرتي مئات الصور لضحكات أحبائي وبريق عيونهم الفرحة، أعددت حقائب سفري نحو الغروب، قررت المواجهة وأخبار زوجي ثم أبنائي. زوجي صدمته كلماتي وشلته للحظات، أفاق بعدها ليضمني في حنو واضعا رأسي على صدره، مربتا عليها بيده الأخرى بحنان، ظللت على تلك الحالة عدة دقائق مرتاحة البال وسعيدة بذلك الشعور من الأمان والطمأنينة، الذي يغرقني به ويسري بجسدي العليل. عندما بدأت دموعي تخف تدريجيا ومع أني شعرت انه لابد من الابتعاد عنه قليلا لتجفيف دموعي، إلا أني كنت أريد البقاء هكذا دهرا، حيث وجدت قوتي، جاءتني كلماته من بين دموعه "لا تخافي سنحاربه سويا وننتصر عليه، نحن معا أقوى منه".

منحتني الحياة فرصة ثانية، بل حياة ثانية، تقبلت مشيئة الله واستعنت به، ناضلت من أجل أولادي وزوجي، الذين أمنوا بشفائي وقدرتي على اجتياز تلك التجربة، بعد سنة من الحرب مع ذلك الداء الخبيث تخلص جسدي منه نهائيا، نجوت من الفخ وخرجت من حربي أقوى كثيرا مما تخيلت، تعلمت أن أعيش كما يجب، أن أحب كما يجب، أن الحياة كالمياه أشرب منها ما استطعت حتى ترتوي، أما لو حاولت إمساكها فلن تجدها ستظل قبضتك خاوية مهما شددتها. إن التجارب ليست دائما نهاية الطريق، بل ربما تكون ملهمة لبداية جديدة أفضل وأرحب.