القمص يوحنا نصيف
    في حوار الفرّيسيّين مع الرجل المولود أعمى، الذي خلق الربّ يسوع له عينين فأبصر، قالوا له بِثِقةٍ: "نحن نعلمُ أنّ هذا الإنسانَ خاطئٌ" (يو9: 24).. وسنلاحِظ في حديثهم أنّهم كانوا متعالين عليه بشكل كبير، ويستخدمون ألفاظًا حادّة وقاطِعة معه، وفي النهاية شتموه وطردوه خارج المجمع.. كلّ هذا لأنّه كان يَشهد شهادة حقّ عن المسيح الذي أبرأه، ويُفكِّر بعقليّة مُحايِدة منطقيّة، فوصل معهم في حديثه أنّ الذي فتح له عينيه هو على الأقلّ نبيّ، ولو لم يكُن آتيًا من الله، لم يكُن يستطيع أن يفعل شيئًا مُعجزيًّا مثل هذا.

    إنّهم للأسف قد قاموا باستدعائه واستجوابه عِدّة مرّات، ليس لكي يعرفوا الحقيقة، بل لكي يحاولوا إثبات ما في ذهنهم من صورة مُسبَقة عن يسوع؛ أنّه إنسان خاطئ، ولا يحترم السبت، ولا يَخضَع لناموس موسى.. ولَمّا فشلوا في إثبات ذلك، قاموا بمحاولات تشويش يائسة لكي يَكتِموا الشهادة القويّة عن المسيح، والتي كان هذا الرجل يشهدُ بها؛ سواءً بكلامه، أو بالتغيير الذي حدث في شكلِهِ، بعد تفتيح عينيه!

    الحقيقة أنّ الإنسان الذي لا يبحث بتواضُع عن الحقائق، ويسعى إليها بكلّ قلبه، بدون أغراض شخصيّة أو أحكام مُسبَقة، هو إنسان يبتعِد بإرادته عن الله، ويتغرَّب عن فهم مشيئته، حتّى لو كان له مظهر رجل دين، أو يجلس على كرسي التعليم.. بل إنّه في الواقع سيُقَدِّم بعد ذلك في تعليمه صورة مشوَّهة عن الله، قد تُنَفِّرُ الناسَ، وتجعلهم يتعثّرون في طريق الملكوت.

    من المؤلِم أن نجد الآن في الكنيسة بعضًا من الفرّيسيّين الجُدُد، الذين يقولون أيضًا نفس الكلام: "نحن نعلَم" أنّ هذا خاطئٌ، وأنّ ذاك هرطوقيٌّ، ويقومون بتوزيع الاتهامات التكفيريّة على الكبير والصغير، بدعوى حماية الإيمان، وفي طريقهم هذا يدوسون على وصايا الربّ يسوع الغالية؛ أن نحبّ بعضنا بعضًا كما أحبّنا هو، ونكون صانعي سلام مثلما صالحنا هو مع الآب، وأن نسعى لوحدانية الروح بكلّ تواضع.. والعجيب أنّهم يتكلّمون بنفس ثِقة الفرّيسيّين القدامى، في أسلوب الحُكم على الناس، دون أن يسعوا لاستجلاء الحقائق من جميع الزوايا، ومن مصادرها الأصِيلة، بل يكتفون بأن يقولوا نحن تلاميذ أُسود الأُرثوذكسيّة "أثناسيوس وكيرلّس"، دون أن يَشبَعوا من كتاباتهم أو يَشربوا نهائيًّا من روحهم، مثلما كان الفَرّيسيّون القُدامى يقولون إنّنا "تلاميذُ موسى" و"أبناء إبراهيم" وهم بعيدون تمامًا عن روح موسى وإيمان إبراهيم.

    صحيحٌ أنّ هؤلاء الفرّيسيّين الجُدُد هم حفنة قليلة، إلاّ أنّهم قد صاروا -مع تواجُد الميديا المفتوحة- سببَ تعكيرٍ واضح لأجواء الكنيسة القبطيّة الأُرثوذكسيّة؛ فهُم يُصِرّون على التشويش على عمل الله الجميل في الكنيسة، وتشويه صورتها في كلّ العالم.. بينما كلّ ما يُهمّهم هو الظهور بمظهر الأبطال الذين يَرجِمون الخُطاة الهراطقة بالحجارة؛ وما أسهل الرمي بالحجارة، بينما ما أصعب البناء.. وفي النهاية هم لا يَقبَلون تنبيهًا ولا توجيهًا، بل يقولون لِمَن يحاول تقويمهم كما قال الفرّيسيّون القُدامى للرجل المولود أعمى: "فِي الْخَطَايَا وُلِدْتَ أَنْتَ بِجُمْلَتِكَ، وَأَنْتَ تُعَلِّمُنَا!" (يو9: 34).

    هذا بالضَّبط ما نراه حاليًا حول حادثة الاعتداء الخطيرة على الأسقف، التابع لكنيسة المَشرِق الأشوريّة، والذي كان يَشهَد للمسيح بكلّ قوّة، فثار ضدّه المتطرّفون، وحرّضوا على قتله.. فقد قام الفرّيسيّون الجُدُد بتحويل الحَدَث إلى معركة طائفيّة، مُكَرِّرين بثِقةٍ نفس كلمات الفرّيسيّين القُدامى: نحن نَعلَم أنّ هذا الإنسانَ هرطوقيٌّ.. بينما هُم لم يدرسوا شيئًا، ولا يعرفون أنّ ما يؤمن به هذا الأسقف وكنيسته، هو في جوهرِهِ نفس ما تؤمِن به كنيستنا القبطيّة الأُرثوذكسيّة، مع استخدام مصطلحات مختلفة للتعبير عن نفس الإيمان؛ وربّما لا يعرفون أيضًا أنّ القدّيس مار إسحق السرياني، المُعَلّم العظيم في العارفين، والذي يتتلمذ على كتاباته مؤمنون من كلّ كنائس العالم، كان أسقفًا أيضًا في كنيسة المَشرِق هذه! وأنّ الحواجز الثقافيّة والتاريخيّة واللغويّة التي تفصلنا عنهم حتّى الآن، ربّما يأتي الوقتُ قريبًا لتجاوُزها، بالجلوس على مائدة الحوار في محبّة وتواضع.

    المشكلة ليست في أنّ هؤلاء الفَرّيسيّين الجُدُد لا يَعلَمون، ولكن المُعضِلة الحقيقيّة في أنّهم يَرفضون معرفة الحقّ، ولا يُريدون إلاّ الكرامة الأرضيّة من الناس؛ فيُصَمِّمون على القيام بالفَتْوَى في جميع الأمور، ويقولون دائمًا: "نحن نَعلَم"! لذلك، فقد انطبق عليهم ما قاله ربّنا يسوع له المجد للفرّيسيّين القُدامى: "لَوْ كُنْتُمْ عُمْيَانًا لَمَا كَانَتْ لَكُمْ خَطِيَّةٌ. وَلكِنِ الآنَ تَقُولُونَ إِنَّنَا نُبْصِرُ، فَخَطِيَّتُكُمْ بَاقِيَةٌ." (يو9: 41).

    عمومًا، يظلّ أمامنا داخل الكنيسة -وفي كلّ العصور- النموذج الجيّد والنموذج الرديء، المولود أعمى والفرّيسيُّون، القمح والزوان، "ديمتريوس" الأمين المشهود له و"ديوتريفِس" المُشاغِب الذي يُحبّ أن يكون أوّلاً (3يو).. وما علينا إلاّ أن نُنَفِّذ وصيّة الإنجيل: "أَيُّهَا الْحَبِيبُ، لاَ تَتَمَثَّلْ بِالشَّرِّ بَلْ بِالْخَيْرِ، لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ الْخَيْرَ هُوَ مِنَ اللهِ، وَمَنْ يَصْنَعُ الشَّرَّ، فَلَمْ يُبْصِرِ اللهَ" (3يو11).

    من أجل هذا، فإنّ شخصيّة المولود أعمى هي الشخصيّة الجديرة بأن نتمثّل بطريقتها في التفكير، وليس شخصيّة أولئك الفرّيسيّين المتكبّرين، الذين يقولون: "نحن نَعلَم". فهذا الرجل بسبب استقامة قلبه، وسعيه نحو الحقّ، قد أنار الله ذهنَهُ وأظهَر له ذاته ووَهبَ له معرفته الحقيقيّة، فآمَنَ به وسجد له؛ في حين أنّ الفَرّيسيّين كان لهم أعيُن ولا يُبصِرون، فرفضوا نور المُخَلِّص، وأنكروا عملَه خارجَ نطاقِ سيطرتِهم، واستمرّوا في عجرفتهم، فحكموا على أنفسهم بالهلاك، والحِرمان من الحياة الأبديّة.
القمص يوحنا نصيف