بقلم الباحث / نجاح بولس
منذ نياحة البابا شنودة الثالث في مارس ٢٠١٢، تتداول الاتهامات حول مسئوليته عن أزمات الأقباط السياسية والاجتماعية، فضلاً عن اتهامات بالجمود فيما يتعلق بقضايا الإصلاح الكنسي وخصوصاً المرتبطة بملف الأحوال الشخصية، ولا شك أن فترة حبرية البابا شنودة التي امتدت من أكتوبر 1971 وحتى نياحته في مارس 2012، شهدت العديد من الأزمات القبطية عانى خلالها المكون القبطي في مصر من التضييق الرسمي والاستهداف الطائفي بمعرفة جماعات الإسلام السياسي، دفع الأقباط لحالة من العزوف السياسي والاجتماعي، ومع المزيد من التقوقع امتدت الأزمات إلى تكوينه وتسللت إلى داخل المؤسسة الكنسية ذاتها.

فهل حقاً كان للبابا شنودة دور في التكريس لهذه الأزمات أو المساهمة في ترسيخ وجودها وتمددها داخل المكون القبطي؟ وهل الدور السياسي الذي لعبه وخصوصاً في فترة حكم السادات أثرت على اندماج الأقباط في الحياة العامة؟ وهل حقاً كان البابا شنودة حجر عقبة أمام خطوات الإصلاح الإداري داخل الكنيسة وخصوصاً فيما يتعلق بدور العلمانيين والمجلس الملّي؟

الحقيقية أن أغلب هذه الأزمات بدأ داخل نسيج المكون القبطي وامتدت للداخل الكنسي في وقت سابق لتولي البابا شنودة رئاسة الكنيسة، فأزمات الاندماج القبطي بالمجتمع المصري على سبيل المثال بدأت مع انتهاء فترة الليبرالية السياسية في أربعينيات القرن الماضي، بعد ضعف حزب الوفد الذي كان يمثل البوابة الرئيسية لانخراط الأقباط في الشأن العام، حتى جاءت حركة يوليو ١٩٥٢ لتطيح بالعملية السياسية بمجملها، وينتقل المجتمع الى حالة جديدة من الانسداد والجمود السياسي، امتدت لتشمل كل المجالات الاجتماعية والثقافية والفنية والأدبية.

ومع انتهاء فترة الليبرالية السياسية التي امتزجت بحالة الانصهار الوطني السياسي والاجتماعي، والتي امتدت من ١٩١٩ حتى قبيل حركة يوليو ١٩٥٢ بسنوات قليلة، خسر معها الأقباط عوامل مهمة للانخراط في الحياة العامة بطريقة طبيعية، في ظل سيادة مفاهيم مدنية وعلمانية كانت مستقطبة للأقباط خارج أسوار الكنيسة، كشريحة اجتماعية مصرية مدنية وليس كطائفة دينية أو مذهبية.

فلم تكن الحياة الاجتماعية للأقباط قبل 1952 تشهد أزمات مع الكنيسة حول ملف الأحوال الشخصية بالقدر الذي وجد بعدها، لأن شريحة كبيرة من الأقباط  كانت تجد لها مسارات في الحياة المدنية المصرية بعيداً عن المؤسسات الدينية حتى فيما يتعلق بملف الأحوال الشخصية، وخلال تلك الفترة أيضاً لم نرصد التعامل الرسمي مع الأقباط عبر المؤسسة الكنسية، بل كان الأقباط منخرطين في الحياة العامة بشكل طبيعي خارج إطار السلطة الكنسية.

وخلال ذلك لم تكن للكنيسة أي دور سياسي ولم يكن البابا ناطق باسم الأقباط، بل أن سلطة الكنيسة على الحياة الاجتماعية للأقباط كانت تكاد معدومة، لقدرة الأقباط على خلق مسارات بالمجتمع بعيداً عن المنظومة الدينية، إلى أن تغيرت الأحداث وانقلبت الأوضاع رأساً على عقب، بعد حركة يوليو ١٩٥٢ ووصول تنظيم الضباط الأحرار لحكم مصر، وتحول المجتمع من فترة الليبرالية السياسية إلى الحكم الشمولي.

مع هذا التحول فقد الأقباط الكثير من مقومات وعوامل الانخراط في الحياة العامة، فعلى المستوى السياسي تجمدت الحياة السياسية وتم حل حزب الوفد، وتحولت العملية السياسية لمناخ طارد للأقباط، وازداد الأمر سوءاً بعد بروز تنظيمات الرفض الاجتماعي وانطلاقها من أرضية دينية إسلامية، وتجسدت تنظيمياً في تيار الإسلام السياسي بقيادة جماعة الإخوان المسلمين، فتراجع الدور السياسى للأقباط تدريجياً لما يحمله هذا التيار من تصور معين حول حدود الدور السياسى للأقباط في مصر بشكل عام.

وقد تحمل البابا شنودة مسئولية رئاسة الكنيسة في وقت عصيب ومن أكثر فترات العصر الحديث تشدداً وطائفية، فقد تزامن بداية رئاسته مع بدايات حكم السادات الذي فتح الباب لجماعات الإسلام السياسي للسيطرة على الشارع المصري، بل ولم يخفي توجهاته العنصرية وصرح بها علنياً موجهاً تهديده ووعيده للمكون القبطي قائلاً: «أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة»، فتلقفت التيارات المتطرفة تلك التصريحات فكان الصراع الطائفي في فترة حكم السادات على أشده، وامتدت وتطورت الأحداث الطائفية خلال فترة حكم مبارك وعانى الأقباط خلال تلك العقود، ما بين الإقصاء الرسمي والتنكيل الشعبي بمعرفة التنظيمات الراديكالية.

وفي ظل ذلك المناخ الطارد لطموحات الأقباط بالمجتمع، لم يكن قد حان الوقت المناسب ليقوم رأس الكنيسة باتخاذ إجراءات طاردة لهم خارج أسوارها ودفعهم للانخراط في المجتمع، فالمناخ الاجتماعي وقتذاك لم يكن مُعَدا للترحيب باندماجهم، ووجد البابا نفسه محملاً بمسئولية الحفاظ على المكون القبطي حتى ولو داخل أسوار الكنيسة، بل ورحبت مؤسسات الدولة بهذا الدور الجديد للبابا الذي يوفر عليها سهولة التواصل مع شريحة مهمة وكبيرة بالمجتمع، وصبغته بصبغة سياسية فأصبحت الكنيسة ممثلة في قياداتها العليا الناطق الرسمي باسم المكون القبطي أمام الدوائر الرسمية.

كان البابا شنودة يتميز بحنكة سياسية سهلت عليه القيام بهذا الدور، كما رحبت الدولة به ارتاحت له أغلبية الشرائح القبطية، لثقتها المتناهية في قدرات البابا الراحل من جهة، ولعوامل الإحباط التي أحاطت بهم خارج أسوار الكنيسة من جهة أخرى، ومما لا شك فيه أن البابا أدار العديد من الملفات القبطية ببراعة في مواجهة مؤسسات الدولة.

ومع ذلك يُحسب عليه عدم استغلال بعض فترات الانفتاح السياسي خلال عصر مبارك، لتهيئة الأقباط للخروج إلى المجتمع والذوبان فيه، فقد كان الدور السياسي وقتها قد تمدد من شخص البابا إلى كل رجال الإكليروس بصفتهم الكهنوتية، ابتداء من القيادات العليا بالمجمع المقدس إلى كهنة الكنائس الصغرى في القرى والنجوع.