محمد حسين يونس
 
إذا كانت السنوات من 1940 حتي 1960 سنوات التعلم و الدهشة بالنسبة لي ..
 
فإن المحطة التالية من 1960  حتي  1980 كانت تمثل العمل الشاق للإعتماد علي النفس و بناء الشخصية المستقلة ..  بما في ذلك إرتكاب الأخطاء ( الحماقات ) التي  لا زلت أعاني من تبعاتها .
 
في هذه الفترة تحول نظام  الحكم في مصر ثلاث مرات ..من الملكي ..الليبرالي .. ألي الديكتاتورية العسكرية المباشرة .. 
ثم جاء التحول الثاني تحت شعار الإشتراكية العربية التي هي نسخة من رأسمالية الدولة الفاشيستية .. و صاحبة علاقة طيبة مع الإتحاد السوفيتي و عداء واضح للأمريكان .. 
 
التغير الثالث  بعد أن تولي الرئيس المؤمن الحكم  و ما أعقب ذلك من إنفتاح إقتصادى علي السوق العالمي ..و تحالف مع أمريكا و إسرائيل و إنتصار للوهابية السعودية  في صبغ المصريين  بصبغة دينية سلفية 
 
 في هذه الفترة  حدثت الوحدة مع سوريا و فقدنا إسم مصر ليحل محلها الجمهورية العربية المتحدة ..و خضنا حربا في اليمن .. و حربا في سيناء مرتين  بينهما حرب إستنزاف طويلة وصلت بطائرات العدو لضرب المدنيين  بالوادى بما في ذلك أطفال مدرسة بحر البقر .
 
و تولي عرش مصر رئيسان من خلفية عسكرية ..مات أحدهما  مجهدا و أغتيل الأخر .. ثم بدأ حكم الثالث الذى سمي نفسة بطل الحرب و السلام لاسباب لا إرادة له فيها .
 
 لقد كانت عشرين سنة حاسمة في حياتي غيرت فيها وظيفتي خمس أو ست مرات .. 
وحاسمة . في تعديل هوية الوطن من بلد مستقل طرد المحتل مرتين إلي تابع يزور رئيسة عاصمة العدو حاملا كفنة معلنا أن ما خاضة في 73 هو أخر الحروب .
 
من 1960 حتي 1980 عقدين شكلت الأحداث فيهما  الأسباب الموضوعية لإنحدار الوطن و تقزيمة الذى لم يتغير حتي اليوم 
مشكلة نظام الحكم في العقدين السابقين  ( منذ أن تولي الضباط  ) .. أن التغيير كان يأتي من أعلي طبقا لرؤية العصبة الحاكمة .. دون أن يكون للشعب حق إلا  في التصفيق و الهتاف .. بالروح بالدم نفديك يا فلان .. ثم ينتهي الامر بعد أن تسوء الأحوال أن  بتحول فلان هذا إلي كابوس يجثم علي انفاس الخلق .. و يعدون الأيام التي تنهي تواجدة .
 
 أن تعمل تحت رئاسة الديكتاتور( الذى يملك رقبتك) مخاطرة تتطلب أن يكون لديك مجموعة من المهارات الخاصة.. فعليك أن تكون قادرا علي قرأة أفكارة ورغباتة دون أن ينطق ثم تتبناها كما لو كانت أفكارك الشخصية.. 
 
وأن تتقن اختفاؤك في ظلة لا يشعر بك الاهو .. واذا ماحدث واضطرتك الظروف لان تتكلم فعليك أن ترجع كل أفكارك والقرارات والانجازات لتوجيهات سيادتة ..
 
بالاضافة لاهمية أن تكون يقظا تعرف اتجاهات القوى .. ولا تقوم بالوشاية الا في الوقت المناسب مع عدم تحديد مصدرها عليك أن تبنيها للمجهول مثل(بيقولوا)..(اشاعات).(سمعت) فتتجنب المواجهة ومعارك لا تعرف نهايتها وتظل مغسول اليد نظيفا.
أغلب الذين أحاطوا بالبكباشي جمال بعد نجاح الانقلاب لم تكن لديهم هذة المهارات فأطاح بهم واحدا تلو الاخر بما في ذلك زعيم المنقلبين المعلن (محمد نجيب)..حتي أحكم قبضته علي الحكم في بداية الستينيات. 
 
و لم يبق علي المداود إلا من  بايعوه زعيما وقدموه بطريقة (يا ولدى هذا عمك جمال)..فلقد نجوا حتي النهاية وكان أجرهم عظيما
سيادة الرئيس كان يمتلك نظرة فاحصة سابرة تربك من يتحدث الية نظرة في الغالب كان يمتلكها راسبوتين ،هتلر،اتاتورك، شاة ايران، صدام حسين .. نظرة تجعلك تتوقف عن التفكير أو تشغيل المخ وتردد كلماتة .. ثم تتحمس لها .. ثم تندفع لتنفيذها .. وعندها تكتشف كم هي معيبة .. ولكن بعد فوات الاوان فالقائد لا يمكن مراجعة قراراتة .
 
هيئة التحرير..الاتحاد القومي..دستور مؤقت..الاتحاد الاشتراكي..دستور الوحدة..كلها كانت ارادة الزعيم أهدر بها امكانية تطوير ديموقراطية ليبرالية متعددة الاحزاب، 
 
لتبقي مصرحبيسة الحزب الواحد حتي بعد أن أصبح بها 32 حزبا  في نهاية الثمانينيات لا يعرف مقراتهم الا لجنة تنظيم الاحزاب .
القومية العربية..تأييد ثورة الجزائر ..الوحدة مع سوريا ..الوحدة مع إمام اليمن ..الانفصال..تاييد انقلاب ليبيا ثم اليمن ضد الامام .. انتشار أفراد المخابرات في الدول العربية والافريقية لنشر عقيدة الناصرية ..حذر الانظمة الحاكمة المحيطة من رجال مصر ..التورط في حرب اليمن .. معاداة السعودية..
 
في النهاية ورغم كل مجهود اذاعة صوت العرب كادت أن تندلع حربا بسبب مباراة كرة قدم بين مصر والجزائرلتحميلهم الزائد ضد مصر.
امريكا صديق الدول المستعمرة والامل في مساعدة الشعوب المقهورة من الامبراطوريات القديمة ..الحياد الايجابي .. السلاح من الكتلة الشرقية..بريوني وباندونج..الانحيازللاتحاد السوفيتي وتنفيذ سياستة في المنطقة ..معاداة الاستعمار أينما كان..الاحلاف العسكرية العربية..الجامعة الاسلامية.. أمريكا داعمة اسرائيل والسعودية ضد مصر ناصر ..
 
في النهاية أمريكا بيدها 99 بالمائة من أوراق اللعبة ..ومعاهدة كامب دافيد.
 
الاصلاح الزراعي الاول .. الاصلاح الزراعي الثاني ..مقاومة الاقطاع .. مديرية التحرير ..تفتت الملكية الزراعية.. تجريف الارض ..سيطرة البيروقراطية علي الزراعة والفلاح من خلال جمعيات تعاونية متحكمة.. انهيارالزراعة .. فشل تعمير الصحارى ..
 
ثم مصر أكبر مستورد للقمح في العالم.. الفلاح يشرب مياه مخلوطة بالمجارى ويروى زراعته بمياة الصرف الصحي و يسمدها بالحمأة (البقايا الصلبة بعد جفاف مياه الصرف الصحي).
 
مصادرة ممتلكات الاجانب ..المؤسسة الاقتصادية..قوانين يوليو الاشتراكية.. تمصير البنوك..تأميم شركات المقاولات والمصانع ..التخطيط لاقامة مصانع لانتاج من(الابره للصاروخ )..تسيب وقلة خبره في إدارة القطاع العام ..نقص في العمله الحرة يوقف تجديد الماكينات أو تزويدها بقطع غيار ..فشل الصناعه في سد احتياجات المجتمع 
 
وفي النهاية  نستوردها (معدات،سيارات،طائرات،قطارات،ملابس،أحذيه،اكسسوارات،أدويه، أغذية ، حلويات كمبيوترات تليفونات). 
أوامر التكليف للمهندسين والأطباء .. القوى العاملة توظف كل الخريجين .. تضخم الجهاز البيروقراطى .. إنشاء وزارات الثقافة والاعلام والاسكان والتعمير والنقل والاتصالات والتنمية الادارية والبيئة والتجارة الداخلية والتجارة الخارجية ، وأغلبها لا يحتاجه المجتمع إلا إذا استوردنا لإدارته وزراء من الخارج .
 
الديموقراطية كما تصورها الزعيم ..القوميه العربية كما ارادها الزعيم..تفتيت الملكية كما قرر الزعيم ..قوانين يوليو كما راى الاشتراكية الزعيم ..كلها عاهات يعاني منها المصريون حتي اليوم بعد وفاته بنصف قرن  لصعوبة الرجوع فيها أو تعديلها أوالغاءها .
.
برلمان نصفة عمال وفلاحين محدودى التعليم لا يتقن إلا قول موافقون ... دستور تختلط فيه نتاقضات غير محسومه بين راسمالية الدولة والرأسماية الطفيليه.. 
 
ترسانه أمن غير محدود عددها وغير محدد مهامهاتخترق جميع المؤسسات ومنشات البلد 
.تعليم يهتم بالكم علي حساب الكيف فلا ينتج الا الجهالة والغيبوبة..
 
جهاز حكومى بيروقراطى متضخم .. مستشفيات تعانى من الاهمال وعجز الامكانيات .. قطاع خاص متوحش .. أجهزة إعلام غافلة وغير مؤثرة .. كلها كانت من أفكار الزعيم وطبقا لإرادته وتخطيطه 
 
وإن كان درة إنتاجه الثلاث أرباع مليون عسكرى أمن مركزى ، المخصصين لقهر أى حركة تغيير يحاولها الشعب .
 
عملت ضمن مجاميع القوة الضاربة للزعيم منذ نعومة أظافرى .. بدأت مراقبا ثم متعاطفا ثم هاويا ثم محترفا، 
 
كنت أراقب الحملات التى يطلقها الثوار لجمع الأموال لتسليح الجيش ، وكيف كانت تتحرك عرباتهم فى زفة إعلامية تذيع أغنية عبد الوهاب ( زود جيش أوطانك واتبرع لسلاحه .. )  وكانت النساء من فرط الحماس ، يخلعن مصاغهن ويسلمنه لمسئولى الحملة ، والرجال والشباب يقدمون كل ما يقدرون عليه ، حتى الأطفال لقد أعطيتهم ( الحصالة )التى كنت ( أحوّش ) فيها مصروفى لمدة ثلاث سنوات سابقة .. وكنت راضيا .
 
عندما بدأ العدوان الثلاثى ، تحولت الى درجة المتعاطف ، فاشتريت من وكالة البلح خوذة وانضممت الى الدفاع المدنى المرتبك الذى لا يعرف لنفسه دورا أو ماذا عليه ان يقوم به ، عدا الحركة فى الشوارع ليلا مطالبا السكان باطفاء الانوار أثناء الغارات .. 
 
بعد نهاية العدوان ، تطوعت مع فرق التعمير وذهبت لبورسعيد التى دمرتها الحرب ، وهناك عانينا الأمرّين ، تركونا بدون طعام أو ماء ولكل مجموعة خيمة مهلهلة تشاركنا فيها فئران جبلية ضخمة وبدون عمل مثمر إلا نقل بعض غلقان التراب.
 
لقد اكتشفت أنا وأبناء جيلى مبكرا ، أن الشعارات وحدها لا تكفى و ان الطريق الى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة كما كان يقول تشرشل .
.فالحماس الذى صاحب حملة التبرعات لتسليح الجيش إنطفأ عندما علمت أن اغلب ما جمع قد تسرب ، وان الباقى كان ضئيلا بحيث لا يشترى سلاحا ..توقفت بعد ذلك عن المشاركة فى حملات رجال الثورة ومشاريعهم .. معونة الشتاء .. منظمة التحرير .. معسكرات التدريب العسكرى .. وبالخصوص أى نشاط يتصل بجمع التبرعات .
 
و بدأ التمييز بعد رفع  شعار ( أهل الثقة بدلا من أهل الخبرة ) والتبشير بأسلوب ثورى فى الادارة والعمل ، بضرب السنهورى باشا بالحذاء فى عقر دار العدالة ، 
 
وتحديد إقامة النحاس باشا لأنه خطب بعد صلاة الجمعة فى جماهير الأسكندرية .. ومحاكمة سراج الدين باشا محاكمة هزلية ،
 
 ومع ذلك فلقد كنت من الجيل الذى بهره الرئيس بخطاباته وحمسه الفنانين ومؤلفى الأغانى لصالح الثورة والثوار ، فلم أهتم بما لاحظه الكبار من تفشى الفساد والعشوائية والتخبط فى إدارة البلاد ، وأخطاء المديرين الضباط الفادحة .. 
 
لقد كانوا يتكلمون أمامنا عن مجوهرات الأسرة المالكة التى صودرت ثم هربت ثم ضبطت معروضة للبيع فى الخارج ، فنقول حقد الرجعية ..
 وكانوا يقصون كيف أن لجان المصادرة كانت تأخذ السجاد الفاخر المصادر وتضع مكانه سجاد بالى من بيوتهم وفازات ( سيفر) من القصور وتحل محلها أخرى مقلدة ..
 
وأن السجاد والأثاث والفازات الأصلية موجودة فى منازل الضباط فنقول إشاعات وأكاذيب .. 
 
لقد جندت نفسى ( مجند هاو ) للدفاع عن الزعيم ورجاله بايمان أن هذا الرجل لا يمكن أن يكون مخادعا وانه عليم ببواطن الأمور ، ولن يسمح بأى تجاوزات أو استغلال للنفوذ أو تسيب  حتي جاءت الطامة الكبرى مع هزيمة 67 (( نكمل حديثنا غدا ))