نادر نور الدين محمد
الضغط على الدول النامية لتقليص الانبعاثات الغازية وترك الدول الصناعية المتقدمة تزيد من انبعاثاتها لهو سلوك يعكس أخلاقيات الزمن الذى نعيشه وغياب العدالة. فالذين يضغطون على الصين والهند من أجل تقليص اعتمادها على الفحم فى توليد الطاقة والصناعة بسبب الانبعاثات الغازية الكثيفة التى تنتج عنه، هم أنفسهم الذين أعادوا استخدام الفحم فى محطات توليد الكهرباء بمجرد منع الغاز الروسى عنهم، أى أن الدنيا أصبحت مصالح فقط وليس مبادئ وعلما.

يقول الرئيس موسيفينى، رئيس أوغندا، إن الانبعاثات الغازية الناتجة عن كل دول القارة الإفريقية الأربع وخمسين لا تزيد على 0.6% من إجمالى الانبعاثات العالمية، وإن الدول الإفريقية بإمكانياتها الاقتصادية الفقيرة إذا استخدمت كل الوسائل القديمة فى التنمية والمنتجة لغازات الاحتباس الحرارى فإن مشاركتها فى الانبعاثات الغازية العالمية لن تزيد على 1% (انتهت التصريحات). ومع ذلك يريد الغرب والدول الصناعية من الدول الإفريقية الفقيرة أن تدمر محطات توليد الكهرباء الحرارية، ونستبدلها بمحطات تعمل بالرياح والطاقة الشمسية وطاقة جوف الأرض المكلفة جدا والتى لا تتحملها اقتصاديات الدول الفقيرة، وأن تدمر قطارات تعمل بكفاءة وبتكاليف فى طاقة شعوبنا الفقيرة من أجل أن نتحول إلى القطارات الكهربية والمترو والسيارات التى تعمل بالكهرباء وجميعها تكلفنا الكثير من أجل توليد طاقة نظيفة لهذه المواصلات الجديدة. والغرب يريد من الدول الفقيرة تقليص مساحات زراعات الأرز وعدد رؤوس الثروة الحيوانية من المجترات التى تنتج غاز الميثان أحد أخطر غازات الانبعاثات الغازية دون اعتبار للأمن الغذائى للفقراء.

فى ندوة علمية عبر الإنترنت عن جهود أستراليا كدولة وقارة فى تخفيض انبعاثاتها الغازية للتعامل مع تغير المناخ سألت المحاضر: ما هو كم الانبعاثات الغازية التى تصدر من أستراليا ونسبتها من إجمالى الانبعاثات الغازية العالمية؟!، فقال: محدود للغاية وأقل من 1%، وسألته: وهل مليارات الدولارات التى أنفقتها أستراليا تتناسب مع هذا الكم القليل من مشاركتها فى تغير المناخ؟!،، فكذلك الدول الإفريقية الفقيرة التى تضغطون عليها وتحملون اقتصادياتها بأعباء كثيرة للتحول إلى الاقتصاد الأخضر قليل الانبعاثات الغازية (انتهت المداخلة مع تأييد وثناء من العديد من المشاركين). فأقصى ما يقدمه العالم لهذه الدول الفقيرة مجرد قروض بفائدة وليس منحا، وهذا يزيد الأعباء على اقتصادياتها ويحملها ديونا لا تحتاجها حاليا، وربما تحتاجها حين يقوى اقتصادها. وفى المقابل لا تضغطون على الدول الثلاث الكبرى فى أعلى الانبعاثات الغازية المسببة للاحترار العالمى، وهى أمريكا والصين والهند، ثم باقى دول مجموعة العشرين، وجميعها تزداد انبعاثاتها عاما بعد عام، كما تثبت أبحاثها العلمية، ويثبته أيضا زيادة استهلاك الوقود الأحفورى والذى سيظل العالم يعتمد عليه حتى نهاية هذا القرن، بل إن أغلب شركات الغرب متخصصة فى البحث عن الوقود الأحفورى المسبب الأول للانبعاثات الغازية بنسب تزيد على 61% من إجمالى انبعاثات العالم (صناعة ونقل ومواصلات). وفى نفس الوقت فإن مبالغ التعويضات التى أقرتها مؤتمرات باريس وجلاسجو وشرم الشيخ والتى ستسددها دول مجموعة العشرين الصناعية الكبرى لم يسدد منها حصته إلا أربع دول فقط ولم يسدد الباقى، ومن المفترض أن هذه المبالغ تسدد للدول الأكثر تضررا، ومنها مصر. فمصر تعانى من احتمالات أن يتسبب ارتفاع مستوى البحر المتوسط فى إغراق وغمر أجزاء من الدلتا المصرية التى تضم أخصب الأراضى الزراعية، حيث تصنف على كونها واحدة من أكثر ثلاث دلتاوات منخفضة فى العالم معرضة للغمر بمياه البحر مع دلتاوات الجانج والميكونج فى جنوب شرق آسيا، ثم احتمالات إغراق أجزاء من مدن الإسكندرية وإدكو ورشيد وكفرالشيخ ودمياط وبورسعيد، بما يستلزم وضع كميات هائلة من الكتل الأسمنتية أمام الدلتا وهذه المدن لرفع مستوى اليابسة ورد ارتفاع مستوى سطح البحر، وهو ما كلف مصر المليارات لمجابهة تغيرات المناخ عليها. هناك أيضا تأثير ارتفاع الحرارة من الاحترار العالمى على تبخير كميات كبيرة من المياه العذبة المصرية القليلة، ومن زيادة استهلاك النباتات للمياه، وبالتالى نحتاج مياها أكثر لكى ننتج نفس الكميات التى كنا ننتجها من الغذاء، وهذا كلفنا إنشاء محطات عديدة لتحلية مياه البحر بتكلفة ستتجاوز 50 مليار جنيه، وهى تقنية خاصة بالدول الغنية، ومصر هى الدولة الوحيدة التى دخلت فيها بسبب تغير المناخ، ومعها معالجة مياه المخلفات لإنتاج نحو 5 مليارات م3 من المياه النقية للاستخدامات الزراعية والصناعية بتكلفة 60 مليار جنيه، ثم تبطين الترع الناقلة للمياه بتكلفة 60 مليارا أخرى كان ينبغى أن تتلقى تعويضات عنها طبقا لقرارات مؤتمرات تغير المناخ بصرف تعويضات للدول الأكثر تضررا والتى تعتبر مصر على قمتها. يزيد على ذلك تحمض البحار التى تطل عليها مصر بسبب زيادة ذوبان غاز ثانى أكسيد الكربون بها وتسلخ جلود الأسماك وموتها وتراجع حصيلة الصيد، بما ألزمنا بإنشاء العديد من المزارع السمكية، وهذا أيضا مكلف جدا، ولم نتلق عنه تعوضات، مع تأثر الشعب المرجانية فى سواحل البحر الأحمر وتحولها من الألوان الزاهية التركواز والأحمر والأصفر إلى اللون الأبيض الطباشيرى، بما أثر على سياحة الشواطئ. ويأتى أخيرا التحول إلى وسائل المواصلات قليلة الانبعاثات من مترو وقطارات وسيارات كهربائية ضغطت كثيرا على اقتصادنا دون مراعاة من الدول الصناعية الكبرى ومجموعة العشرين ودفع التعويضات اللازمة لمصر نتيجة لسرعة التعامل مع هذه الأمور، وكان من الممكن تأجيلها، فكل انبعاثات مصر تقل عن 0.3% فقط وليس هناك ما يلزمها بتحمل كل هذه النفقات دون دعم من الدول التى تسببت فى هذه المعاناة.

التنمية وصالحنا أولا فى مصر وإفريقيا والتعامل مع تغير المناخ مستقبلا حين تتحسن الاقتصاديات أو إلى حين أن يشعر الغرب والشرق بتكاليف مجابهة والتأقلم مع تغير المناخ.

* كلية الزراعة جامعة القاهرة
نقلا عن المصرى اليوم