عندما خلق الله الإنسان, خلقه بارا قديسا بسيطا, لا يعرف سوي الخير فقط. ولما سقط الإنسان في الخطيئة, بدأ يعرف الشر إلي جوار الخير. وفقد بساطته وبراءته, وعرف أنه عريان, واستحي من عريه وتغطي.. ومن ذلك الحين وقع الإنسان بين شقي الرحي, أعني الخير والشر. ودخل في صراع بينهما, وبين الحلال والحرام, وما يليق وما لا يليق.
عاش الإنسان في صراع الإثنينية. أمامه الاثنان, فأيهما يختار. وأمامه النتيجتان: البركة أم اللعنة, المكافأة أم العقوبة, الحياة أم الموت.
وأول صراع عاشه الإنسان, هو الصراع بين الروح والجسد. فالروح تشتهي ضد الجسد, والجسد يشتهي ضد الروح. والإنسان في حيرة. إلي أي منهما ينقاد. وكما قال أحد الأدباء الروحيين: كنت أصارع نفسي وأجاهد, حتي كأنني اثنان في واحد: هذا يدفعني, وذلك يمنعني.. إنه صراع داخلي.
إنه صراع سببه معرفة الخطية, ثم محبة الخطية. وقد يكون أحيانا صراعا بين الشهوة والضمير, وهو صراع أثناء حياتنا في هذا العالم فقط, الذي نوجد فيه بالجسد, ونحاط بالمادة, ونحارب بالخطية. أما في العالم الآخر, في الأبدية السعيدة, فسوف نعود إلي بساطتنا الأولي, ولا نعرف سوي الخير فقط. وتنزع منا تماما معرفة الخطية. ولا يوجد حينئذ صراع بين الروح والجسد.
أما علي الأرض فلا يزال صراع الإنسان قائما مع الإثنينية. إنه صراع مع نفسه, حتي يصل إلي ضبط النفس.. صراع مع رغباته, ومع أفكاره, ومع حواسه. وينتهي الصراع حينما يصير الإنسان واحدا, وليس جبهات داخلية تقاوم إحداها الأخري. كما قال أحد الأدباء: إذ اصطلح العقل والجسد والروح فيك, حينئذ تصطلح معك السماء والأرض ولكن الصراع الداخلي هو مرحلة للمبتدئين, أو للذين لم يتحرروا بعد من الداخل. فإن تحرروا يكون منهجهم هو النمو في النعمة, وليس الصراع بين الخير والشر.
فإذا كان الإنسان لم يتحرر من شهوات العالم والجسد, فلابد أن يقع في الخوف: إنه يشتهي, ويخاف أن شهوته لا تتحقق. فإن تحققت يخاف أنها لا تستمر. وإن استمرت, يخاف من نتائجها. وفي حالة الخطية, يخاف أن تنكشف, ويخاف من العقوبة ومن الفضيحة, ويخاف, من غضب الله عليه. وقد يخاف من كيفية الاعتراف بخطئه. وإن ترك الخطية, قد يخاف من إمكانية العودة إليها. إن حالة الإثنينية ترتبط دائما بالخوف كما ترتبط بالشهوة. وهكذا قال القديس أوغسطينوس عبارته المشهورة: جلست علي قمة العالم, حينما أحسست في نفسي: أنني لا أشتهي شيئا, ولا أخاف شيئا.
الخوف مرتبط إذن بالشهوة والخطية. ونقصد هذا المعني للخوف, وليس الخوف الطفولي من الظلام أو الأرواح. فالانسان الروحي لا يخاف أبدا. إنه يشعر بوجود الله معه, يحميه ويقويه ويخلصه... الإثنينية إذن تقود إلي الصراع وإلي الخوف وإلي أخطاء أخري كثيرة, الإثنينية تقود إلي الرياء. حيث يصبح الشخص اثنين: أمام نفسه شيئا وأمام الناس شيئا آخر... فأمام الناس يلبس ملابس الأبرار والقديسيين. وهو أمام نفسه عكس ذلك تماما. حينما يكون وحده قد يسلك بإهمال أو بخطأ أو بما لا يليق. وأمام الناس ربما يحرص علي أن يكون مدققا في تصرفاته.
وبالإثنينية يكون إنسانه الداخلي غير إنسانه الخارجي. ربما تكون كل أفكاره ومشاعره ونيته غير ما يظهر للناس. وبسلوكه أمامهم, محال أن يظنوا أن له أفكارا خاطئة. حقا لو كشف الله كل الأفكار والمشاعر, كم يكون خجل أصحابها, ودهشة الناس!! وبالإثنينية قد يكون قلب الإنسان غير لسانه. فهو يقول ما يعجب سامعه, وقد يكون قلبه غير ذلك أو عكس ذلك! وقد يصلي بشفتيه بينما يكون قلبه مبتعدا عن الله تماما.
إنسان آخر تندرج به الإثنينية إلي التملق أو النفاق. فقد يكون في قلبه كارها لرئيسه, حاقدا عليه. ومع ذلك يكلمه بكلام المديح والملق... وفي هذا يكون ذلك الشخص قد صار اثنين: الإنسان الداخلي فيه يختلف عن الخارجي, بل يتناقض معه إلي أقصي حد. فمتي يصير الإنسان واحدا, قلبه واحد مع لسانه. وبمثل إنسان في المواضع المقدسة, أو في عبادته أو في خدمته, يكون بمنتهي الرقة واللطف والأدب. أما في بيته أو في العمل فيكون بمنتهي الشدة والعنف والقسوة. إنه إنسانان مختلفان. كذلك في معاملاته لا يجوز أن يكون اثنين, أو بوجهين, أو يلعب علي حبلين! كأن يعامل شخصا برقة وبإخلاص وباحترام... ومن خلفه يدبر له مكيدة, أو يتكلم عليه بالسوء. أو يكون معه بكل القلب أو يبدو كذلك, فإذا انقلب الجو انقلب معه. وكما يقول المثل العامي: معاهم معاهم, عليهم عليهم.
والذي يعيش بالإثنينية, لا يكون له ثبات. فهو غالبا يكون كثير التغير, وأحيانا كثير التردد. وقد يتحول من حال إلي حال. وقد تتصارع أفكاره. أو تتصارع أذنه مع عقله. ولا يعرف هل يصدق أذنيه ويتبعهما, أم يصدق قلبه واقتناعه الداخلي.
الإثنينية قد تقود إلي انقسام الشخصية. وإذا استمرت ربما تقود إلي ازدواج الشخصية, وصاحبها قد يري في أحد الأيام بصورة, وفي يوم آخر بصورة مغايرة. وتقول أنت عنه في نفسك: ليس هذا هو الشخص الذي عرفته بالأمس. إنه شخص آخر تماما!! والإثنينية قد تقود إلي التحايل. إذ يريد الشخص غرضا سليما, وفي سبيل تحقيقه يلجأ إلي وسيلة خاطئة. وهنا يجتمع فيه الخير والشر بعمل واحد. والوسيلة الخاطئة تشوه الخير الذي يريده. ولكنه التحايل في الوصول.
في اليوم الأخير. حينما يكشف الله الخفيات, تري أين يخبيء الناس وجوههم؟.
نقلا عن الاهرام |