CET 08:27:43 - 23/11/2009

مساحة رأي

بقلم : نبيل شرف الدين
على سبيل الفنتازيا، دعونا نتخيل أن "المباراة ـ الأزمة" بين منتخبي مصر والجزائر، كانت مع فريق إسرائيل على ستاد تل أبيب، وأراهن بما تبقى من عمري، أن توابعها لن تكون أسوأ مما حدث للمصريين على يد لأشقاء في العروبة والإسلام، وعلى أرض السودان الذي كان ذات يوم قريب جزءاً منا.
والسبب ببساطة أن الأمن الإسرائيلي أكثر كفاءة من أشقائنا السودانيين، الذين لا نتهمهم بشئ، إذ انفلت الأمر منهم لأنهم معذورون، فالشعب السوداني سمح لا يميل للعنف، ومن هنا فأجهزة الأمن هناك ليست لديها خبرات كبيرة في السيطرة على مثل هذه المواجهات المأزومة.

من جهة أخرى فإن المشجعين الإسرائيليين لن يكونوا أكثر عدوانية ووقاحة من سلوك مشجعي الجزائر، بل على العكس، وأراهن مرة أخرى بما تبقى في رأسي من شعيرات، بأن المصريين كان سيستقبلون بكل مودة وأريحية، ولن يسمع مصري في إسرائيل مجرد لفظ يخدش مشاعره، أو يتعرض لسلوك يؤذيه، خلافاً للأحجار التي رشقنا بها جمهور الجزائر رغم فوز فريقه.

وقطعاً للطريق على المزايدين من "دراويش العروبة" فهذه المقارنة الافتراضية ليست تصيداً في الماء العكر، بل لتأكيد صحة مواقف مريرة بدا فيها من يتشبث بمصريته، كأنه مطعون في وطنيته و"بعيد عنكم" عروبته المزعومة. فأي إخوة هذه التي تجعل حصول المصري على تأشيرة أميركا أسهل من دبي أو الكويت، ويحصل معها المرء على جنسية أوروبية لو عاش هناك بضع سنوات، بينما لن يحلم بها حتى لو أفنى عمره في معظم الدول العربية.
دعونا نعترف ببساطة، ودون انفعالات عاطفية أن المسألة أبعد من مباراة كرة، بل تمتد لسؤال الهوية، ودائماً كنت أحتمل عشرات الشتائم والسخائم، حين كنت أؤكد أن هويتنا المصرية هي الأقدم والأعرق والأكثر تحضراً في المنطقة، فلماذا نتسول إذن هويات الآخرين؟.

نحن كنا هنا على ضفاف النيل منذ فجر التاريخ، وللمصريين "كود نفسي" لايجيد معظم الأعراب قراءته واستيعابه، فالمصري مثلاً عاطفي بامتياز، يغضب ويصفو كالنسمة، ويكرم ضيفه ولو كان فقيراً يجد قوت يومه بالكاد، حتى العادات البغيضة كالثأر، فهي نتيجة للتغيير الديمغرافي الذي حدث للصعيد منذ استوطنته قبائل بدوية عبر قرون، فنقلوا هذه العادة من أسطورة "العنقاء" الشهيرة.. التي لا ترتوي إلا بدماء الخصم

حين كنا "المملكة المصرية"، كان كل عربي من مشرقها ومغربها يحلم بزيارة القاهرة، وكانت سيداتهم تقلدن أمهاتنا في الملبس والذوق العام، وحين أصبحنا "الجمهورية العربية المتحدة" وألغينا اسم مصر من أوراقنا ـ وليس من وجداننا ـ مُنيت المحروسة بواحدة من أسوأ الهزائم التي كسرتنا جميعاً عام 1967، أما عندما أصبحنا "جمهورية مصر العربية"، فلم تكن أكثر من محاولة تلفيقية بائسة، حولتنا إلى "ملطشة للي يسوى واللي ميسواش"، فتارة يقتل جنودنا بيد الفلسطينيين في رفح، وأخرى تدهس كرامتنا في دول الخليج، وثالثة نتعرض للترويع والإهانة من برابرة كرة القدم، الذين بدا واضحاً أنهم مدعومون من أجهزة رسمية جزائرية، ولم يكن الأمر مجرد تصرفات فردية لبعض الحمقى والمعتوهين، بل أقلت طائرات حربية آلاف الجزائريين المنتقين بعناية لمهمة بدت كأنها "جهادية".

حين يكون لدى المرء ما يقدمه، يحتفي به الجميع، وهكذا الأمم والدول، ونحن للأسف صرنا أحوج ما نكون لوقفة مع الذات، قبل الصديق والشقيق، لنحدد أولوياتنا فتكون مصر ومصالحها أولاً، ولكي يحدث هذا فلابد أن نتجاوز خرافة "القومية العربية"، فنحن المصريون لسنا أمة لقيطة حتى ننتحل هويات جيران لا يحترموننا، بل تحكمهم "عقدة الدونية" تجاهنا، فيتعمدون إهانة المصريين الذين اضطرتهم لقمة العيش للسفر شرقاً وغرباً، بعدما كنا مقصد اليونانيين والإيطاليين والأرمن وغيرهم من الشعوب المتحضرة، التي لم تزل بقايا جالياتها حية لليوم.

أرجوكم، أقبل أياديكم يا أهلي وعزوتي المصريين، أن تجربوا الرهان على أنفسكم مرة واحدة، وأن تثقوا بأنكم لستم فقط "خير أجناد الأرض"، بل وخير صنّاع الحياة من زراع وصنّاع وأدباء وفنانين وغيرهم، صدقوني مستقبلنا ليس مع المشرق العربي ولا المغرب، بل مع العالم المتحضر هناك في الغرب، كما فعل محمد علي باشا وأولاده، حينما وضعوا باريس وروما ولندن نصب عيونهم، وابتعثوا إليها المصريين.

هذا البلد لم يكن عنصرياً أبداً، فبين المصريين ستجد ملايين يشبهون النوبي الأسمر محمد منير وآخرين كالأشقر القوقازي حسين فهمي، واتسع صدر مصر للشوام والمغاربة والطليان واليونان وكلشينكان فمصر فكرة.. وبستان يتسع لكافة الزهور والأشواك، وعروس تمنح نفسها لمن يحبها ويستحقها، أقول هذا حتى لا يقفز مزايد فيتهمنا بالعنصرية، فنحن في مصر تصدينا لتمصير اليهودية فكانت طائفة "القرائين"، وكذا تمصير المسيحية فامتلكنا براءة اختراع "الرهبنة"، كما مصرنا الإسلام فبلورنا "الدين الشعبي" الرائع، لأنه متصالح مع السنة والتصوف والحياة، والآن ينبغي علينا أن نكف عن إعادة تدوير نفايات الآخرين، سواء كانت قطع غيار من نوعية "استعمال الخارج"، أو الأفكار التي لفظتها بيئتها الأصلية كالسلفية الجهادية، والقومية وهي النسخة العربية من النازية، فنعيد إنتاجها في مصر.. التي أحسب أنها تستحق أبناء أفضل.

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٦ صوت عدد التعليقات: ١٩ تعليق