بقلم: كمال غبريال
نحمد الله -الذي لا يُحمد على مكروه سواه- أن مصر عامرة بالكفاءات في كل المجالات والميادين بلا استثناء، وعلى رأسها فئة من يسمُّون أنفسهم بالخبراء السياسيين، وهي فئة عامرة ومزدهرة بمنتسبيها العباقرة، الذين يجيدون التلاعب بالأفكار وتقليبها على كل وجه. . ثنيها وفردها ثم إعادة طيِّها، ليخرجوا علينا في النهاية بما لم نكن نتصوره أو نتوقعه من أي صاحب عقل أو ضمير إنساني أو وطني. . يحتاج الأمر بلاشك إلى مهارة وذكاء متوقد وغير اعتيادي، ليتمكن الخبير من هؤلاء من قلب الحقائق الدامغة رأساً على عقب، ليقنع القارئ أو السامع المسكين، بأن النور ظلام والظلام نور. . وبأن المجرم ضحية أو بطل، وبأن الضحية هو الجاني الحقيقي. . بالطبع لا يفوت على خبراء الزمن الأغبر هؤلاء أن يتجملوا، وأن يرشوا فوق بضاعتهم التي تفوح منها رائحة عفن تزكم الأنوف، بعضاً من الرتوش والبرفانات، التي تتيح لهم التهرب والهروب عند المحاسبة، وذلك بذكرهم وإقرارهم لبعض الحقائق، في جمل سريعة خاطفة، يعقبها مائة لكن ولكن، ليغطسوا بعد ذلك ساحبين المستمع والقارئ معهم، إلى بئر التضليل والتزييف، فلا تنتهي الحلقة التليفزيونية أو المقال، إلا وقد انتشر في الجو ضباب أسود كريه الرائحة. . هو تكتيك واحد صار نهجاً لهم جميعاً.
يسيطر خبراء الزمن الأغبر على شاشات التليفزيون وصفحات الجرائد. . يغسلون أدمغتنا، أو يلطخونها بميولهم ورؤاهم الظلامية. . ولا يقدمون لنا برهاناً على ذكائهم المتوقد ونهجهم العلمي سوي ركوبهم لنظرية المؤامرة، ونظرية الأيدي الخفية والتدخلات الخارجية. . يهدرون بها فرصاً ذهبية للمراجعة وتقييم الذات، هذا بالطبع لو امتلكنا ما يكفي من الشجاعة والإخلاص لأنفسنا ولشعوبنا. . فلقد كنت مثلاً أعزي نفسي الحزينة على مذبحة عيد الميلاد في نجع حمادي، بأن أقول "رب ضارة نافعة"، راجياً أن تنطبق هذه العبارة على حادثة مذبحة عيد الميلاد في نجع حمادي. . إذ نرصد بالفعل غضباً حقيقياً لدى أخوة الوطن من المسلمين، الذين لا يقبلون أن يحدث ما حدث لأخوة لهم في الوطن وفي الإنسانية. . لا يقبلون أيضاً على دينهم الإسلامي، أن يرتكب بعض المجرمين باسمه تلك الجرائم. . لكننا لا نعدم وسط تلك الأصوات الشريفة المنددة بتلك النوعية من الأحداث، وتجرمها بلا تحفظ، بعض الأصوات الخبيرة في التحليل السياسي، التي "تعطيك من طرف اللسان حلاوة، وتروغ منك كما يروغ الثعلب". . هذا البعض يتجاهل الأسباب الحقيقية لما يحدث، وهي بالأساس تحريضات الأصوليين والسلفيين الإسلاميين للغوغاء، وبثهم الكراهية للعالم أجمع، عبر كل وسائل الإعلام التي صارت متاحة ومفتوحة لهم، وصارت باباً للاسترزاق بملايين دولارات تقطر دماء وكراهية.
يذهب هؤلاء إلى أن سبب تلك الهجمات على الأقباط المساكين والمستضعفين هو مواقع الإنترنت الصادرة عن أقباط المهجر، وقناة الحياة التي يطلق فيها زكريا بطرس هجماته على الإسلام. . هكذا صارت الغوغاء في قرى صعيد مصر على اتصال مباشر (أونلاين) مع الشبكة العنكبوتية وزكريا بطرس. . ورغم أن مواقع إنترنت أقباط المهجر لا تكاد تهاجم الإسلام، وإنما ترفع الصوت بالشكوى من معاناة الأقباط، وزكريا بطرس هو فقط من يهاجم الإسلام، فإن هذا يعني إن كان ما يتقولون به صحيحاً، أن المواطن المصري المسلم يحق له ارتكاب هذه الجرائم، رداً على مطالبات إنترنتية للأقباط بحقوقهم، ورداً على قيام فرد واحد وحيد هو زكريا بطرس بمهاجمة الإسلام. . فلنقل أن هذا المنطق جميل ومعقول. . لكن ماذا عن التمييز ضد الأقباط في عالم الواقع وليس العالم الافتراضي؟. . ماذا عن المطالبات بدفع الأقباط للجزية، وإلزامهم أضيق الطريق، وحرمانهم من تولي وظائف الولاية العامة؟ . . ماذا عن ملايين خطب الجمعة، وشرائط الكاسيت في جميع وسائل المواصلات، وفي إذاعة القرآن الكريم وتليفزيون الدولة وفي إصدارت الأزهر ومقررات معاهده الدراسية وغيرها، وكلها يسب الأقباط ودينهم، وينعتهم بأسوأ النعوت، ويتوعدهم بالعذاب في الدنيا والآخرة؟. . هل صنع كل هذا من الأقباط قتلة وإرهابيين، يشنون على الآمنين من المسلمين غارات وغزوات مقدسة؟
هل ما يقوله ويتعلل به هؤلاء مجرد اعوجاج منطق؟!. . أم أنه منطق الاستقواء والتنطع، واحتراف التضليل والتبرير؟. . أم أنه حقاً "اللي اختشوا ماتوا"؟!!
في توقيت متزامن جرى حادثان، تتمزق لهما نياط أي قلب إنساني وضمير وطني، أولهما مذبحة ليلة عيد الميلاد في نجع حمادي، والتي راح ضحيتها عدد من القتلى والجرحى الأقباط، والثاني هو اغتيال الجندي المصري "أحمد شعبان" وهو في برج المراقبة على الحدود المصرية بين مصر و"إمارة غزستان"، بالتواكب مع أثاره الوافدون بدعوى المساندة الإنسانية لأهالي غزة من شغب وتخريب. . تعرض للحادث الأول د. ضياء رشوان مع آخرين، في حلقة من برنامج "ساعة حرة" على قناة الحرة يوم الخميس 7 يناير، وكنت مشاركاً في الحلقة عبر الاتصال التليفوني. . وتعرض للحادث الثاني د. حسن نافعة في مقال له يوم 10 يناير بالمصري اليوم. . اسمان كبيران في عالم التحليلات السياسية، لكن لا حيلة لنا إلا أن نستعرض النهج والتكتيك الذي استخدماه في معالجة كل منهما للحادث الذي تعرض له، مع ملاحظة أن الحادثين متشابهين في أكثر من وجه.
الضحايا في الحادث الأول هم أقباط مسالمين خارجين للتو من صلاة عيد الميلاد، وفي الحادث الثاني الضحية جندي شاب في نوبة حراسته على حدود بلاده، كما أن الضحية الأخرى هي سيادة دولة متسامحة مع جيرانها الإرهابيين ومتعاطفة معهم إلى حد البلاهة والغفلة، ليكون جزاؤها في هذا الحادث وحوادث أخرى قبله جزاء سنمار كما يقولون.
نأتي إلى التشابه في معالجتي الخبيرين للحادثين:
•في معالجة الحادث الأول استهل الخبير حديثه بإدانة الجريمة، وفي الحادث الثاني أنهى الخبير مقاله بإدانة الجريمة أيضاً. . وهكذا تصور كل منهما أنه أبرأ ذمته، وأغلق الطريق على من سيصنفونه وفق التصنيف الذي تضعه فيه معالجته ومجمل سياق حديثه!!
•في معالجة الحادث الأول تفتقت عبقرية الخبير عن تساوي المجني عليه مع الجاني في جريمة التعصب، وبالتالي المسئولية عما حدث ويحدث، لتصير دماء المصريين الأقباط المسالة ليلة العيد مسئولية مشتركة بين المجرمين وبين مواقع الإنترنت التي تدافع عن الأقباط، بما يعكر مزاج السادة الذين يريدون العودة بمصر إلى فكر وتشريعات تنتمي لأربعة عشر قرناً مضت، سالت إبان تطبيقها دماء المؤمنين وغير المؤمنين بها أنهاراً!!. . معالجة الحادث الثاني كانت أكثر براعة ونجاحاً في قلب الأمور رأساً على عقب، فانلقب الجاني إلى ضحية، والضحية (الدولة والسيادة المصرية) إلى جان، ففي شرع الخبير الاستراتيجي (كما يقال غالباً) أن الدولة المصرية المجرمة لم تستقبل الاستقبال الحسن قافلة وصفها بقوله: "وتأتى هذه القافلة فى إطار سلسلة قوافل يسعى من خلالها نشطاء المجتمع المدنى للفت أنظار العالم إلى بشاعة الحصار الذى تفرضه إسرائيل على قطاع غزة، والعمل فى الوقت نفسه على تقديم أكبر قدر ممكن من المعونات الإنسانية للتخفيف من حجم المعاناة التى يتكبدها الشعب الفلسطينى جراء استمرار هذا الحصار الظالم". . هذه هي الرؤية المغالطة والمسطحة لتهديد حقيقي وخطير للأمن القومي المصري، يأتي من جماعة إرهابية تتخذ من الشعب الفلسطيني رهينة، لتهدد السلام في كل المنطقة، وتمارس التنكيل بكل الشعب وكل الفصائل الفلسطينية. . عصابة اغتصبت السلطة، ومع ذلك تعاملها الدولة المصرية وكأنها كيان سياسي شرعي، يليق أن يجلس ممثلوه مع المسؤولين المصريين، فيما عناصرهم التخريبية تعصف وتعبث بالحدود المصرية، وتتسلل إلى داخل البلاد بالمتفجرات، مستعينة بقاعدة عملاء عريضة وقوية، رغم تسميتها "بالجماعة المحظورة".
•تتميز المعالجتان وتشتركان في البراعة في إضفاء حُلة قشيبة من التظاهر بالعقلانية والحياد العلمي والتحليل الرصين، على مقاربات تستهدف تبرير ما تم اقترافه من جرائم في الحادثين. . فنجد مثلاً في مقال د. حسن نافعة نموذجاً للتلاعب بالحقائق، ليخرج في النهاية وقد حقق غرضه، وفي نفس الوقت يكون قد ذكر ونوه بأغلب ما يتحتم تناوله من عناصر الموضوع، فهو يذكر مثلاً: "دعونا نسلم جدلا بأن النائب البريطانى جورج جالاوى - مثلما زعم المتحدث الرسمى لوزارة الخارجية المصرية - لم يأت للدفاع عن قضية يؤمن بها وليس معنيا بشىء سوى البقاء فى دائرة الضوء الذى يتيحه له تقمص دور المدافع عن القضايا العربية، بل فلنذهب حتى إلى ما هو أبعد ولنفترض جدلا أيضا أن جالاوى يعمل لحساب قوى معادية لا هَمَّ لها سوى إحراج النظام المصرى وإلقاء مسؤولية تجويع الشعب الفلسطينى المحاصر فى قطاع غزة على كاهله وحده". . لكنه يعود ليقرر كأن ما يقوله حقيقة بديهية ومنطقية: "أنه كان بوسع مصر الرسمية أن تتجنب الكثير مما أحدث وأساء كثيرا لسمعة مصر لو أنها كانت قد قررت منذ اللحظة الأولى التعامل بحسن نية". .
أمر يبدو للغافل منطقياً، فيما يبدو للمدقق مضحكاً أو مؤسفاً، أن تطالب بأن تطوِّع الدولة المصرية إجراءاتها السيادية وفق "حسن النية"، تجاه من يقرر الخبير (ولو من قبيل التحوط والمراوغة) أنه مشكوك في نواياه. . وقد تصير مأساة مقاربة خبيرنا جلية حتى للعميان، إذا تذكرنا أنه يتحدث عن "جورج جالاوي"، المطرود من مجلس العموم البريطاني، والمدان في فضيحة كوبونات النفط الصدامية، والذي من الواضح أن حماس هي من تستأجره حالياً بالدولارات الإيرانية!!
تعتمد الشعوب على الخبراء والمحللين السياسيين، لكي ينيروا أمامها وأمام مؤسساتها التنفيذية الطريق العلمي والصحيح لمقاربة الأحداث، أما مصر العرب والعروبة، فلا يكاد يبرز ويشتهر لديها إلا من يصح تسميتهم بخبراء الزمن الأغبر!!
مصر- الإسكندرية
kghobrial@yahoo.com |