CET 00:00:00 - 07/02/2010

مساحة رأي

بقلم: رشدي عوض دميان
تمضى بنا الحياة يوماً بعد يومٍ ، بِحُلْوها ومُرِّها ، بأفراحها وأحزانها ، بصفائها وشقائها ، وكثيراً ما تمر أمام أعيننا مواقف وأحداث وشخصيات ، وكثيراً ما نسمع عن نوادر وقصص وحكايات ، ولكن أمور الحياة غالباً ما تُلْهِينا عن أن نَتَرَّوَّى ونَتَمَهَّلْ لكى نتحقق من ماهِيَّة تلك المواقف والأحداث ؟ كما لا نحاول أن نتعرف على هذه الشخصيات التى لعبت أدوارها فيها ، ولا حتى نُعيرها أى إهتمام أو إكتراث ؟

من المعروف أن الأفراح والأحزان هى إنعكاس تلقائى للمشاعر الإنسانية الحساسة الرقيقة والمرهفة التى تتأثر بواقع الحدث سواء كان مُفرحاً أو مُحزناً ، ومن النعم الإلهية على النفس البشرية أنها تستطيع أن تُعَبِّر عمَّا يجيش بداخلها سواء بالفرح العاقل المحسوب ، أو أحياناً بالفرح الماجن الغير مرغوب !! كما تُعَبِّر النفس أيضاً عمَّا يدور فيها من حزن ، أحياناً بالبكاء الصامت وبالأسى والنحيب ، أو بالصراخ والعويل والنواح الكئيب .

مبسوطة وسعيد شخصيتين حقيقيتين وليسا من الشخصيات التى يبتكرها خيال مؤلف قصص وروايات غير واقعية لمجرد شد وجذب إنتباه القراء !! مبسوطة وسعيد من الشخصيات التى تعيش معنا فى هذا الكون الذى نحيا ونعيش نحن فيه ، يمسى الليل ويطلع النهار عليهما مثلهما مثل سائر البشر فى كل أرجاء العالم .
مبسوطة - وهذا هو اسمها الحقيقى - وسعيد - وهذا أيضاً هو اسمه الحقيقى - يقضيان يومهما بالكاد !! ولكن الست مبسوطة وعم سعيد هما من هذا النوع من الناس الذى يُعَبِّر عمَّا يجيش فى داخلهم ليس بالضجر والجحود ، ولا بالصراخ ولطم الخدود ، ولكن بالفرح وبالشكر بلا حدود .

الست مبسوطة وعم سعيد ، زوجة وزوج يعيشان حياتهما البسيطة فى حجرة أيضاً بسيطة تجمعهما مع أولادهما  الذين أصابهم جميعهم مرض عضال حار الأطباء فى علاجه !! وبقى أربعة منهم على قيد الحياة ولا يزالوا يعانون منه بعد أن رحل شقيقهم الأكبر ، كما أن والدهم يعانى من الفشل الكلوى والنزيف المستمر الذى لا يتوقف  ومع ذلك كله فإن الست مبسوطة وعم سعيد وأولادهم يعيشون حياتهم فى تسليم كامل وفى حمد دائم وفى شكر مستمر ، حياتهم بسيطة فى بساطة الست مبسوطة نفسها !! وسعيدة فى سعادة عم سعيد نفسه !!

وفى غمرة الأحزان التى خَيَّمَتْ على كل الشعب القبطى فى مصر وفى كل أنحاء العالم بسبب الأنباء التى أتى بها  ( غُرَابُ البَيْنِ ) عن الحادثة الهمجية التى أوْدَت بحياة ستة من شباب كنيسة السيدة العذراء ومار يوحنا الحبيب بمطرانية نجع حمادى أثناء خروجهم منها بعد إنتهاء صلوات قداس الإحتفال بليلة عيد الميلاد المجيد فى يوم الأربعاء 6 يناير 2010 ، كما أودت معهم بحياة جندى الحراسة المسلم الذى كان منوطاً بحفظ الأمن !!   
فى غمرة هذه الأحزان التى نجمت عن هذه الحادثة والتى سادت ليس بيوت الأقباط فقط فى مصر ، ولكنها أثَّرَت أيضاً فى نفس كل إنسان يفكر ويعيش من خلال أحاسيسه الآدمية بالدرجة الأولى قبل أن تكون لهويته الدينية أى تأثير على مشاعره تجاه الآخرين من الذين أصابتهم هذه الفاجعة !! فى وسط كل هذه الأحزان والآلام التى أصابت الجميع ، وفى وسط هذه الأنباء المحزنة التى حفلت بها جميع القنوات الفضائية ، علاوة على الصحف والإذاعات ، تُطِلُّ علينا الست مبسـوطة من خلال برنامج تليفزيونى يعرض أحزاناً من نوع آخر  أحزان لم تصنعها يد بشرٍ ، ولكن صنعتها المشيئة الإلهية الغير مُدْرَكَةٍ والغير مفحوصة ، إنما لكى تؤكد أن الرب لا يجرب الإنسان بالشرور ، وأنه لا يسمح له بأى تجربة أكثر مما يحتمل ، وأنه يعطى مع التجربة منفذاً ومخرجاً  أطَلَّتْ علينا الست مبسوطة من خلال هذا البرنامج ، لكى تقول لنا أن الرب قادر أن يحول الحزن إلى فرح طالما قبلنا إرادته وسَلَّمْنَا بمشيئته ، وبإبتسامة ملائكية صافية عذبة على وجهها ذو الملامح الطفولية البريئة  وبلهجة مصرية قبطية صعيدية حلوة تُنْبِئُ عن أصالة معدن نفيس ، تقول بكل صـدق وبسـاطة وفـرح :

o أَنِّى مُش زعلانة أبداً من رَبّْنـَا وهوَّه عارف الصَّحْ لىَّ فين .
o أَنِّى عُمْرِى ما طلبت منه طلب وإتأخَّر علىَّ .
o أَنِّى طلبت منه يشفى رفعت  ، بس هُـوَّه عاوزه عنده .
o أَنِّى بأشكره ، وأَنِّى مش زعلانة من رَبّْنـَا لأنه عَمْ بِيْحِبْنِى .
o أَنِّى فرحانة برَبّْنـَا جَوِى جَوِى لأنه عُمْرُه ما زعلنيش ولا كَسَر نفسى .
o أزعل من رَبّْنـَا إزاى وهُوَّه اللى ساندنا وهُوَّه اللى ماسكنا بيَّدُّه ؟
o أَنِّى شاكراه على كل حاجة يجيبها .
o مُش جَادْرَة أوصف لكم محبة رَبّْنـَا لىَّ .  

كلمات الست مبسوطة كانت تأتى على فمها هكذا بكل البساطة كبساطتها هى ، وبكل العفوية تماماً مثل براءتها وعفويتها هى ، الست مبسوطة لم تكن تقرأ كلماتٍ أعدها لها كاتب ( الإسكريبت ) أو مُعِّـد البرنامج بل كانت كلماتها تخرج من قلبها قبل لسانها ، ومن مشاعرها الداخلية فى أعماقها الممتلئة بالفرح والسلام والطمأنينة والأمل والرجاء ، قبل أحاسيسها السطحية بالواقع المر والقاسى وما تعانيه من بؤس وشقاء !!  
الست مبسوطة بكل تأكيد هى من هذا النوع من أمهاتنا وأخواتنا الطيبات الشاكرات والصابرات ، واللائى من خلالهن وبهن ومن أجلهن يتواصل لنا كل ما ننعم به من خيرات وبركات

أخذتنى كلماتها البسيطة ، ومشاعرها الصادقة ، بل والفرح الذى يمتلئ به قلبها الوادع المطمئن إلى عمل الرب أخذنى كل ذلك من إحساسى بأى تذمر من أى شئ ؟! ورحت أقول لنفسى أولاً وأتساءل - قبل أن أقول لغيرى وأسأل - هل يستطيع أى واحدٍ منَّا مهما كان سعيداً أن تكون على وجهه إبتسامة رضاء وفرح مثل التى على وجه الست مبسوطة ؟! هل دققنا النظر فى هذا البريق اللامع الذى يكسو عينيها وهى تردد كلمات الحمد والشكر ؟! هل لنا هذه الوقفة المنتصبة والغير منحنية الواثقة التى تَنُم على الرجاء واليقين فى عمل الرب وفى محبته لنا كما تقول الست مبسوطة : ( أنا بأشكر رَبّْنـَا لأنه عَمْ بِيْحِبْنِى ) ؟!      


رحت أتساءل أيضاً متأملاً ومتعجباً فى نفس الوقت ؟! تُرَى من إختار لها إسم ( مبسوطة ) عندما وُلِدَتْ ؟
من الطبيعى أن تكون الإجابة أن أبواها هما اللذان إتفقا على تسميتها بهذا الإسم !! ولكن لا أدرى لماذا أميل إلى الإعتقاد بأن تكون جدتها لأمها أو جدتها لأبيها هى واحدة من اللتان أطلقتا عليها اسم مبسوطة !! أو ربما تكون الإثنتان معاً قد إتفقتا على نفس الإسم !! وقد بنيت إعتقادى هذا على أساس أن معظم العائلات فى الصعيد لا تعتمد على الأطباء والمستشفيات للإشراف على عمليات الولادة لبناتهن !! وإنما تقوم سيدات العائلة الكبار بعملية التوليد !! هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى جرت العادة على إطلاق الإسم على المولود الذى ربما كان تم الإتفاق عليه مقدماً ، وأحياناً أخرى يتم إطلاق الإسم عليه بمجرد خروجه من بطن أمه إلى الدنيا ويقينى أن مبسوطة كانت قد أُطلِقَ عليها اسمها هذا بمجرد أن أطلت على الدنيا فقط لأنها حقاً كانت مبسوطة ومبتسمة نفس الإبتسامة الملائكية الحلوة والعذبة على وجهها ، ولم تكن تصرخ وتبكى مثل كل المواليد ؟!!

يوجد تعبير عامى يقول : ( فلان هذا اسم على مُسَمَّى ) !! وهذا ليس بقاعدة يؤخذ بها فى الغالب ؟! إذ أحياناً ما تُقابل إنساناً يُدْعَى بإسم صفةٍ معينة ولكنك لا تجدها فيه على الإطلاق !! أمَّا فى حالة الست مبسوطة ، نجد أن هذا التعبير ( اسم على مُسَمَّى ) هو ينطبق عليها تماماً وبلا أدنى شك .

ولكن يوجد توضيح لغوى بخصوص معنى صفة ( الإنبساط ) ، أرى أنه يجدر أن أورده هنا للقارئ :
من المتعارف عليه بين الغالبية العظمى من الشعب المصرى بالذات أن المعانى الشائعة للصفة الفعلية ( مبسوط ) وللصفة الإسمية ( الإنبساط ) هو فرحان والفرح ، مبتهج والإبتهاج ، مسرور والسرور ، وهى معان صحيحة إذا قيست فقط على المدلول الجذرى الصحيح لهذه الصفة وهو ( بسط ) ، فمثلاً فى مقاييس اللغـة نجـد أن فعـل ( البسط ) يعنى فَرْد الشئ أو مَدُه ، وكذلك الصفة الفعلية المؤنثة ( مبسوطة ) تعنى مفرودة أو رحبة أو ممتدة أو واسعة ، مثال على ذلك عندما نقول الأرض المبسوطة ، فذلك يعنى الأرض الواسعة الرحبة والممتدة  ومنها جاءت تسمية الأرض بإسم ( البسيطة ) عندما نقول على وجه البسيطة ، أى على وجه الأرض .

وعلى ذلك فإن مبسوط أو إنبساط لا تعنيان الفرح والإبتهاج بالدرجة الأولى ، لأن المعنى المتعارف عليه يجئ من المعنى المجازى للفعل أو للصفة ، وقياساً على هذا المعنى المجازى ، نجد أن الست مبسوطة هى بحق سيدة فرحة ومبتهجة ومسرورة دائماً بالرب ، كما نجد أنها لها عقلية رحبة ومنبسطة غير معقدة ، وذات أفق واسع ممتد إلى ما وراء الأمور الحاضرة التى تبدو كئيبة ، واثقة بإيمانٍ غير مرتابٍ فى إحسانات الرب وفى أعماله العجيبة وبالأكثر نرى أنها تحمل على وجهها هذه الأسارير المنبسطة التى أضفت عليه هذه الملامح الطفولية البريئة !!

مبسوطة وسعيد وحياتهما مع أولادهم هى فى مجملها عبارة عن عظة حيَّة عن ثمار الروح القدس فى حياة الإنسان الذى يحيا بالإيمان مع الله ، كلنا رأينا كيف أن المحبة والفرح والسلام ، طول الأناة واللطف والصلاح  الإيمان والوداعة والتعفف ، هذه كلها رأينا كيف تعيشها الست مبسوطة وتطبقها فى حياتها مع أسرتها بتلقائية وبدون رياء ولا كَلَفَة ولا مظهرية ، رأينا محبتها للرب أولاً ولأسرتها مع الفرح الذى يمتلئ به قلبها والسلام العجيب الذى تشعر به ، علاوة على طول أناتها وصبرها على ما تقاسيه ، رأينا لطفها وصلاحها فى كلماتها البسيطة والعميقة ، أيضاً لمسنا فى هذه الكلمات إيمانها ووداعتها ، وكيف تعففت حتى عن التذمر والشكوى .

برنامج تليفزيونى قَدَّم لنا أسطورة واقعية ؟! وأقول أسطورة فقط لأنها تحكى عن أناس ربما يبدو للوهلة الأولى أنهم ليسوا من هذا العالم ؟! ولكنها واقعية لأننا شاهدنا بعيوننا الست مبسوطة وزوجها عم سعيد وأولادهم كما سمعنا بأذاننا أنشودة الأمل والرجاء والفرح والسلام فى الكلمات البسيطة التى قالتها الست مبسوطة !!    

وأعود إلى السؤال الذى يُختتم به هذا البرنامج عادة ، وأسأله أنا لنفسى أولاً :
أين نحن من الست مبسوطة ومن عم سعيد ؟!

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ١ صوت عدد التعليقات: ١ تعليق