بقلم: مدحت قلادة
إن جفت دموع العين فلن تجف دموع القلب في رثاء أب روحي ليس لي فقط!! بل لكل أقباط العالم!! أب فريد يحمل من الصفات ما يجود به الزمن كل عدة قرون. عايشت المهندس عدلي في فترة ساخنة من حياته فيها الكثير من التجارب والمواقف التي تعكس هويته، فترة كفاح من أجل أقباط مصر، فترة حافلة بالمؤتمرات والحوارات واللقاءات مع مسؤولين رسميين بالدولة، وغير رسميين، أو إعلاميين، فترة ثمينة بالفكر والتصدي للمواقف الصعبة.
أثناء التحضير لمؤتمر 2004 اتصل به أحد الكتاب ليتدخل في تغيير اسم المؤتمر فلم يفلح.. اتصل عدة مرات محاولاً التدخل في قرارات المؤتمر ولم يفلح.. أخيرًا بعد فشله طلب من المهندس عدلي ألا تنص قرارات المؤتمر على كلمة اضطهاد، فأدرك المهندس عدلي الرسالة جيدًا وجاءت في قرارات المؤتمر عبارة "إن ما يعانيه أقباط مصر هو اضطهاد وليس تمييزًا كما يدع البعض".
يوم 6 يناير 2005 وصل فاكس من أحد الأقباط يحمل عبارات من النقد للمهندس عدلي فأخذ الفاكس وعلَم على الجمل غير اللائقة فإذ بهم اثنان وعشرون جملة.. وجاء رد فعل م. عدلي: (بالطبع يوجد من لا يتفق معنا.. ومعهم حق.. ولكن من لا يتفق معنا فليؤسس بنفسه منظمة قبطية.. فمن المصلحة وجود عشر منظمات قبطية في كل بلد فهذا إضافة للعمل القبطي).
كان المهندس عدلي يتصل تليفونيًا من 4 إلى 5 ساعات يوميًا، وكان يستمع لشكوى البعض من أمور مختلفة، وكان يكرر هذه الجملة يوميًا عشرات المرات: (لا يوجد شخص كامل فالشخص "س" يؤيدنا بنسبة عشرة بالمائة والآخر عشرون، وآخر خمسون، وبالنهاية فجميعهم إضافة لنا يجب أن نهتم بالعمل ونترك الشكليات).
نتيجة لتعب المهندس عدلي في التحضير لمؤتمر سبتمبر 2004 قد أُرهق ونصحه طبيبه بتقليل ساعات العمل ولكنه لم يستمع لنصائح الأطباء مما اضطره لحضور مؤتمر 2004 على كرسي متحرك.
حضر نائب رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان وتقابل المهندس عدلي معه ثلاث مرات (أدعوك لمقابلة أعضاء المجلس القومي لحقوق الإنسان بمصر) فرد المهندس عدلي: (لن أحضر لأنكم لا تملكون من أمركم شيئًا!!) ولم يجامله).
حضر أحد أعضاء لجنة السياسات مؤتمر الأقباط في نيوجيرسي وألقى المهندس عدلي الكلمة في المؤتمر، فإذ بكلمته تحمل في طياتها تهديدًا للأقباط، وتحملهم مسؤولية اضطهادهم، فإذ بالمهندس عدلي يتصدى كالأسد للدفاع عن أقباط مصر.
تم فضح السعودية على يد المهندس عدلي كمصدر رئيسي لمتاعب أقباط مصر وأن التغلغل الوهابي هو الذي أفسد أولي الأمر وحول مصر إلى مستعمرة وهابية!! كان هو أول من فضح دور المملكة الوهابية ونشرها الأيديولوجية المتطرفة بين المصريين وشحنتهم بكم من الحقد والكراهية لشريك الوطن.. ولكننا كشباب لا نملك الخبرة ولا الحنكة ولا الرؤية التي يملكها المهندس عدلي، واعترضنا على تلك الرؤية بقولنا له: (لماذا نفتح جبهة أخرى؟!! فلنركز على مصر) فما كان منه إلا أن شرح لنا بالتفصيل دور السعودية المخرب لمصر والمنطقة وصدقت رؤيته، فكل المصريين الشرفاء والوطنيين بالمنطقة يذكرون بعده دور السعودية المخرب للمنطقة وللعالم أجمع ومازالت السعودية نفسها تئن من الوهابية كما أنت من الإخوان كما ذكر الأمير نايف وزير الداخلية السعودي عن الإخوان "اعتقدنا أنهم سبب عزاء ولكنهم سبب وباء".
تابع مهندس عدلي بكل جوانحه كل مؤتمراته، وشرح لنا كيفية إرسال دعاوى للكتاب والنشطاء وأعداد كبيرة للحضور للمؤتمرات، فذكرت له ذات يوم "يابشمهندس" ممكن أن يندس بين المدعوين مخابرات ورجال أمن... فكان رده في حكمة وجيزة "الحديد موصل للحرارة" ليتهم يحضرون لينقلوا لهم ما نقوله بصدق وموضوعية.
بعد نجاح مؤتمر واشنطن عام 2005 في رفع القضية القبطية عالميًا، أخبره المتحدث باسم المؤتمر أنه ذاهب لمصر، فرفض المهندس عدلى ذلك وأصر على رفضة فقال له: "يا ابني مش هايدولك حاجة، مشاكل الأقباط معروفة للجميع مش محتاجة حوارات ونقاشات، وقال له أنا مش موافق"، وقد أخبره "لو نجحت تعالى قابلني ونشرب سويًا نخب ذلك ولكنك لن تنجح فتعالى وسوف نشرب قهوة سادة"، ومازال أهالينا يشربون قهوة سادة على ضحاياهم من الخانكة لنجع حمادي.
قامت الصحف الصفراء والأمنية على مؤتمرات المهندس عدلي وأرادت أن تشيع بأن هذه المؤتمرات تمول من اليمين اليهودي وغير ذلك من الإشاعات الكاذبة فأرسل خطابًا إلى المستشار أحمد عزت بسفارة مصر يطلبه للحضور والتحقق من أن كل سنت صُرف على كل المؤتمرات من حر ماله الخاص ضاربًا مثالاً في الشفافية والصدق والشجاعة.
كمحبين لمعلمنا المهندس عدلي كنا نستاء من كل كلمة بطالة توجه من الصحف الأمنية والقومية ضد شخصه العظيم فكان رده: (يا ابني أنا لا يهمني مادح ولا قادح أنا رجل صاحب رسالة ولن يزيدني المدح كما لن يصيبني القدح).
كان المهندس عدلي رجل أوجاع كثيرة فكان يذهب مراتٍ عديدة أسبوعيًا للمستشفى أو للدكتور وكنا بعد كل زيارة.. نريد العودة به للمنزل كي يستريح فكان يصر على الذهاب للعمل ويظل يعمل حتى الساعة السابعة أو الثامنة مساءًا ويكمل عمله بعد عودته لمنزله وانطبق عليه قول الشاعر "إن كانت النفوس عظامًا تعبت في مرادها الأجسام".
داوم المهندس عدلي على الاتصال بخمسة عشر من الكتاب والنشطاء من مصر والعالم وكانت جميع كلماته مع الأشخاص تحمل تشجيع، أو معرفة، أو استفهام، وكسب العديد من الناشطين في العالم مسلمين وأقباط، وكتاب وحقوقيين من مصر والعالم أجمع كما استطاع كسب المهمشين في المنطقة وأعطاهم مثلاً حيًا في كيفية اغتصاب الحقوق المسلوبة والشجاعة وبذل الذات فاتصلوا من ليبيا، والمغرب، والسويد، والسعودية، وسوريا، و الجزائر، وأبو ظبي... كل هؤلاء ليقدموا تعازيهم في أبينا الراحل كإخوة في عملنا الحقوقي.
أخيرًا هناك العديد من المواقف التي عايشتها وسأذكرها تباعًا.. تؤكد على تمتع المهندس عدلى بصفات ندرت أن وجدت في شخص واحد مثل: الخبرة، والصدق، والصراحة، والقوة، والشراسة في الدفاع عن الحق... هذه صفات معلمي العظيم.. فقد سهرنا يوميًا على مدار الأسبوع للساعة الثالثة والرابعة صباحًا في اتصالات هاتفية بمعظم دول العالم مع كُتَاب مسلمين وأقباط، لم يعط لعينيه نومًا ولا لأجفانه نعاسًا من أجل رفع الظلم عن أقباط مصر.
هذه صفات العظماء... فهم يحترقون كالشموع من أجل هدف سامٍ يدافعون.. بلا تهاون.. يضحون بالغالي والثمين من أجل هدفهم.. "وهل هناك أثمن من بذل الذات؟!!" أبينا الروحي هنيئًا لك فردوس السموات... هنيئًا لك إكليلك المتوج... هنيئًا لنا قربنا منك... وعزاؤنا أنك ستظل معنا بأيديولوجياتك وبذلك لذاتك وعطائك فأنت شمس لن تغرب عنا أبدًا.
وأخيرًا في ذكرى الأربعين لكبير الأقباط المهندس عدلى أبادير يوسف، لقد نال حب الجميع، احترام الكل المتفق والمخالف له، وتربع على عرش قلوب ملايين من الأقباط والمسلمين في مصر والمنطقة كل هذا ليس بكلمات بل بأفعال وعمل دائم مستمر وتعب وسهر ليالٍ طويلة وسط كم هائل من التعب، حتى أن مؤتمر زيورخ سبتمبر 2004 حضره على كرسى متحرك فنال مجد التربع في قلوب الآخرين بالعمل الصادق الجاد وانطبق عليه قول الشاعر
"لا تحسبن المجد كأسَ أنت شاربـــــه لن تبلغ المجد حتى تلعق الصــــــــــــــبر" |