بقلم: د. صبري فوزي جوهرة
تكاثرت الأقوال وانتشر الحديث عن تولي دكتور محمد البرادعي رئاسة مصر بعد عام2011. ومن الكتابات التي قابلتها في هذا الشأن تعليق بجريدة إيلاف الإلكترونية لسيدة يبدو من اسمها أنها في مقتبل العمر او ربما في وسطه وأنها مصرية لعلها من أصول صعيدية بالتحديد (هريدي). جاء في تعقيب على مقال مؤيد لترشيح دكتور البرادعى للرئاسة أنه لا يصلح لهذا المنصب حيث انها تريد رجلا من "قاع المجتمع" شعر بالفقر والمعاناة والبطالة حتى يتفاعل ويستجيب لاحتياجات السواد الاعظم من الشعب المصرى فى وقتنا هذا.
وبعد مقدمة معهودة باننى احترم رأى السيدة الفاضلة, وهو امرتمليه على المجاملة واصول الحديث ورغبتى اليومين دول بان اظهر بمظهر الانسان "المؤدب", والادعاء بانى "ابن ناس", بعد هذه المقدمة التوموتيكية, ارجو من القراء الكرام السماح لى بان "اتبحبح" وافضفض شوية. فاذا فعلوا لنالوا منى وافر الدعاء والشكر على ذوقهم وسعة صدورهم. اما عن احترامى لشخص السيدة المشار اليها فهو صادق وبكل اخلاص.
يبدو ان السيدة الفاضلة لم تعاصر ايام مصر الافضل. ولقد امسكت عمدا عن وصفها بالزمن الجميل كما يحلو للبعض ان يفعلوا, فليس هناك جمال مطلق خاصة فى احوال الاوطان ومعارك النضال السياسى والاجتماعى والتطور والتقدم التى خاضها الوطن حتى خلال تلك الفترة من تاريخنا المعاصر التى سبقت حكم هلافيت 1952 والتى نصفها بالجمال.
كنا قد اولينا امور حاضرنا ورهنا مستقبل ايامنا فى زمن مضى لرجال , او قل لرجل واحد او رجل وعصابته, من "قاع المجتمع" كما اسمته صاحبة التعليق (و اقصد جمال عبد الناصر وبطانته). فماذا كان الحصاد؟ دكتاتورية ودولة بوليسبة ومغامرات دون كيشوتية افلست مصر وانهكت قواها, ودفعت المصرى الى نسيان اسم الوطن والتخلى عن الهدف الاهم وهو بناءه . انحرفنا, بل اجبرنا, على الانحراف عن الهدف الانفع والاسمى بصريخ لا ينقطع ليلا او نهارا, يصم الاذان جعلنا نركض نحو اوهام وخيالات خرافات الى ان جائت الصدمة الكبرى فى هزيمة 1967 وليتها ايقذتنا. فبالرغم من الهزة القاسية كان وقع الهذيان القومى الذى برمج المصريون عليه مسبقا اشد من ان يعيدهم الى صوابهم ويدفعهم لقبول وتجرع العلاج النافع والقاء عصابة الحكم الفاشل الى محاكم التاريخ واقامة مشروع بناء الوطن من الحضيض على اكتاف رجال مؤهلين وليس عيال مريلين فاسدين. ما زالت مصر والشرق الاوسط باكمله فى بؤس وشقاء كما ان العلم باسره ايضا يعانى من الام الارهاب العشوائى المتكرر المنبثق عن فوضى ما بعد الهزيمة. اصبح الجميع ضحايا حكم رجال "القاع". من منا يستطيع القول اننا قد افقنا بعد من كابوس 1952 وامتداده القاتم فى عام 1967؟ اليست كلها من "انجازات" "بتوع القاع"؟ على من يقع اللوم دونهم بعد ان اخرصوا الرجال وقيدوا الاحرار واذلوا الاشراف واخلوا الساحة لهم ولشياطينهم الصغار يعربدون فيها كما يشاؤن الى هذه اللحظة.
لا شك ان السيدة المذكورة ترى وتشعر بحاجتنا ان ننتشل انفسنا من الطين والا لما تحدثت ضمنا عن حتمية التغيير. ولكن هل لنا ان نعيد الكرة و"نلملم" من نفوض اليه اعادة بناء مصر من بتوع القاع ؟ من معطيات المنطق ان تكرار ذات الفعل يؤدى الى ذات النتائج. عايزه من ده تانى يا ست؟ حرام عليك.
مصر فى حاجة الى استبدال الفريق (the team) اياه برجال مثقفين مهذبين محترمين. انها فى حاجة الى ارستقراطيين يتولون امورها. والارستقراطية بمعناها الشامل لا تعنى حصرا نبل الاصل ووفرة المال بل هى صفة انسانية لمن له الرغبة الداخلية الذاتيه تتأصل فى من تحلى بالذوق الرفيع المصقول بالنشأة الحسنة والتعليم الراقى الرشيد والثقافة الرفيعة والتعرف على القيم الانسانية السامية والتمسك بها والدفاع عنها, وتصب هذه الخصائل جميعها فى نهر واحد هو الرغبة القوية والعزم الصادق على الارتفاع بكل من هم اسفل الى درجات اعلى لم يكن سوى للقليل منهم ان ينالوها بدون تهيئة الظروف وتمهيد الطرق المناسبة. انه المبدأ المسيحى القائل بان على كل من اعطى ثمران يعمل على ان يزداد حتى لا يكون له حساب فى الاخرة. الارستقراطية هى صفة المسيحى الحق كما ان المسيحية هى نمط ارستقراطى للحياة. ولكن دعنا من الحديث فى هذا الامر الان علشان ما نطفش الزباين!
وعايزين امثلة؟ هل كان لمصر ان تنجب سعد زغلول او احمد لطفى السيد او سيد درويش اومحمد عبد الوهاب او ام كلثوم (و هؤلاء الثلاث الاخيرين خاصة من ابناء الشعب الكادح) وغيرهم من مشاعل الفترة الليبرالية لو لم يسبقهم محمد على باشا وحفيده العظيم اسماعيل باشا؟ من جهة اخرى ماذا جلب علينا بتوع "قاع المجتمع" اكثر من شعبولا وبحبك يا حمار؟
قد يتغاضى المرء عن فشل "بتوع القاع" ان اثبت التاريخ حسن مقاصدهم. اما اذا اقترن هبوطهم بالتجبر والفساد والعنجهية والمكابرة والرغبة القاتلة فى الاستمرار على طريق الانتحار فهذه جميعا ذنوب لا تغتفر ولا حاجة لمصر بهم او بامثالهم. ويعتقد العبد لله ان من يولد ويمكث فى القاع بارادته او بغير اختياره لا يصلح لاقامة الامة من كبوتها. القاع مش قاع الطبقة الاجتماعية بس, القاع اغوط من كده بكتير.
لنعط دكتور محمد البرادعى دوره فى تحريك المياه الاسنة. وان لم يوفق فى الوصول الى كرسى الرئاسة لتغلب قوى الفساد عليه فارجو الا يقعده هذا عن متابعة الكفاح لتحقيق الاهداف التى تبناها والتى اعلن عنها. ذلك لان دكتور البرادعى مش من" بتوع القاع". |