CET 00:00:00 - 16/04/2010

مساحة رأي

بقلم : أنطوني ولسن
ما أن ينتهي من قراءة عناوين الصفحة الأولى من الجريدة اليومية ويبدأ في تصفحها ليكمل قراءة الجريدة حتى يسمع وقع خطواتها الهابطة فوق درج سلم محطة قطار "دالويتش هيل DulwichHill" 
يرفع عينيه خلسة من خلف الجريدة ويتتبع قوامها الممشوق، ورقبتها الطويلة، وشعرها الأسود الطويل المتدلي فوق ظهرها، ومشيتها الساحرة التي توحي لمن ينظر اليها انها لا تسير على الارض  بل انها تطير مثل ملاك.
 تعرج شابتنا ناحية اليمين وتتجه نحو موقف محدد تحت سلم المحطة وتقف في انتظار قدوم القطار المتجه إلى المدينة.
يكتفي صاحبنا بطي الصفحة الأولى مع النظر الى الصفحة الثانية دون ما قراءة أي خبر أو عنوان بها. بل جل همه مراقبة فتاة الصفحة الثانية كما يحلو لنفسه ان يطلقها عليها كلما يتذكرها.
 يأتي القطار من ناحية الجنوب متجها ناحية الشمال. تبدأ عجلاته في التباطؤ حتى يقف تماماً أمام الرصيف رقم واحد للمحطة.
العربة الأولى للقطار بمحاذاة نهاية الرصيف او بدايته ثم العربة الثانية وبابها الاول امام صاحبتنا «فتاة الصفحة الثانية» وبعض من الركاب والراكبات. فيندفع كل  الى الركوب، ويكون صاحبنا قد طوى الجريدة تحت إبطه وتحرك مع المتحركين لركوب العربة الثانية ولكن من الباب الثاني. 
بعد ذلك لم يعرف عنها شيئا ويضيع هو مع أحداث اليوم وتسير هي في طريق يومها، ولم تلحظ يوما ذلك التصادف العجيب بين هبوطها درج سلم المحطة مع انتهاء تصفحه للصفحة الأولى من الجريدة اليومية التي يشتريها من محل بائع الجرائد الموجود عند مدخل مبنى المحطة.
 ذات يوم تأخر «صاحبنا» عن موعده. شغله صديقه على الهاتف ولم ينتبه غلى انه قد تأخر على موعد رؤية «فتاة الصفحة الثانية» فأنهى المكالمة مسرعاً على الرغم من ان كل منهما «هو وصديقه» هذا لا يفترقان.. لا في العمل.. ولا خارج العمل.. وساعات الافتراق في الليل. الهاتف يجمع بينهما قبل النوم. وهو «أي الهاتف»،  يوقظهما للقاء في الصباح.
لم يكن يسكن بعيداً عن محطة القطار. لذا قطع المسافة جرياً.. بل وثبا حتى وصل الى مبنى المحطة، ولم ينتظر دوره لشراء الجريدة، بل أسرع واختطفها من مكانها وألقى للرجل بورقة من فئة الخمس دولارات وقال له وهو ملتفت اليه برأسه لكن جسده مستمر في المشي «احتفظ بالباقي».
 إصطدم بإنسان.. إنتبه لماحدث.. نظر إلى من اصطدم به فإذا بها إمرأة وقعت حقيبة يدها وإنفتحت وتبعثر ما بداخلها.. انحنى إلى الأرض يلملم ما تبعثر على اثر اصطدامه بالمرأة دون قصد .  عندما ناولها الاشياء التي لممها نظر اليها.. ثم أخذ يضحك بصوت عال مشيرا إليها بأصبعه  قائلاً لها:
- «فتاة الصفحة الثانية».. هاها.. ها..

تملك الغيظ المرأة.. واشرأبت اعناق من كان في المكان لترى صاحب هذه الضحكة العالية ولتعرف من هي «فتاة الصفحة الثانية».
انتبه إلى عملته.. فاعتذر لها. وكانت قد وضعت كل ما تبعثر منها داخل حقيبتها.
هبطا الدرج سويا.. وصل القطار قبل ان ينتهيا من الهبوط.. اسرعا.. توقف القطار وكانا قرب الباب الأول للعربة الثالثة للقطار. همت ان تجري ناحية العربة الثانية.. أمسك بذراعها طالبا منها برأسه ان تركب معه العربة الثالثة.
  سارت معه.. ركبا سوياً القطار، وفي الرحلة من محطة «دلويتش هيل» الى محطة «وينيارد» في قلب مدينة سدني كان قد أخبرها بحكاية " فتاة الصفحة الثانية "، بعد أن اخبرها بأسمه «توم» الموظف باحدى شرطات التأمين ويقطن غير بعيد عن محطة القطار.. محطة قطار «دالويتش هيل» بالطبع.
أما هي بعد ان استمعت اليه لم تجد حرجا في تقديم نفسها وإخباره بإسمها ومهنتها، بل تحدثت اليه عن ما تحب ولا تحب في مختلف المجالات والآراء الثقافية والسياسية.

ماري آن.. هذا إسمها.. أصبحت بعد ذلك اللقاء أكثر لهفة للوصول الى محطة قطار «دالويتش هيل» للقاء توم وهما يتحدثان عن الجو إن كان صحواً مسمشاً، أوغائماً ممطراً، بعدها يقص كل واحد منهما على الآخر مافعله منذ لحظة نزول ماري آن وحدها في محطة قطار «وينيارد» واستمراره في القطار حتى محطة «تاون هول» حيث مقر عمله.
 تعوّد كل منهما على رؤية الآخر، وتعوّد كل منهما على إخبار الآخر بكل الاحداث التي مر بها في فترة البعد هذه.
لاحظ «جيرالد» الصديق الحميم لتوم التغير الكبير الذي طرأ عليه وحاول استدراجه لمعرفة سر التغير.. لكنه لم يفلح.
 حاول توم أن يتخلص من صحبة جيرالد في فترة الغداء. فعمد إلى تغير موعد الغداء بالاتفاق مع رئيسه على ذلك، واصبح يتناول الغداء مع ماري آن في حديقة «الهايد بارك» فازداد وقت رؤية كل منهما للآخر.
كما عمد الى رفع «سماعة الهاتف» في الصباح حتى يقطع على جيرالد إتصاله الدائم به والاحاديث المتكررة والتي بدأ يمل منها.
توطدت العلاقة بين توم وماري آن، لم يعد مجرد لقاء في الصباح، تناول الغداء في «الهايد بارك» ظهراً، بل تعدته إلى لقاءات مسائية والذهاب الى مشاهدة الأفلام التي تعرضها دور العرض، وإلى مشاهدة اي عمل فني آخر سواء مسرحي أو استعراضي.
الحب هو الطريق الطبيعي لمثل هذه العلاقة. وكما تروي الحكايات والقصص عن قصص المبحين.. نستطيع ان نؤكد ان هذا ما سيحدث بين توم وماري آن.
 حاول جيرالد صديق توم ان يعرف سبب تحول توم عنه. بدأ جلياً لجيرالد أن توم يخفي عنه سراً.. سراً لم يستطع معرفة كنهه.
ذات مساء في ساحة عرض احدى دور العرض السينمائي في شارع جورج بسيدني، لمح جيرالد صديقه توم متأبطاً ذراع فتاة جميلة. اندفع نحو صديقه وفي سخرية لاذعة أخذ يوبخه لكتمان سر هذه الصداقة أو الحب الذي بينه وبين هذه المرأة.
 تلجم لسان توم لهول المفاجأة، اصاب ماري آن ذهول لجرأة و" صفاقة "هذا الانسان الذي مهما كانت صلته بتوم، ما كان واجباً عليه أن يتهكم هكذا.. وعلى مرآى من الناس.
كاد توم أن يخرج عن صوابه ويلكم جيرالد بقبضة يده في وجهه لكنه تماسك وابتسم وقام بتقديم ماري آن له على أنها صديقته .
هدأ جيرالد.. لكن لم يستطع كتمان غيظه. ودون أن يتفوه بكلمة تركهما منفعلاً وغادر المكان.
إنتاب ماري آن هاجس كئيب.. فرفضت مشاهدة الفيلم، وأصرت على العودة الى المنزل.

 في الطريق الى المنزل حاول أن يشرح لها توم الصلة التي بينه وبين جيرالد.. وأخذت هي تفكر فيمن يكون هذا الانسان الذي لم يشر إليه توم ولو بإشارة عابرة. أغاظها هذا وأخرس لسانها. غادرت السيارة بعد وصولهما امام منزلها دون أن تلفت وراءها أو حتى تلقي تحية المساء لتوم.
عاد توم الى منزله حزيناً مهموماً لا يعرف ماذا يفعل مع جيرالد ومع حبيبته ماري آن.
دخل غرفته وأغلق الباب عليه وأخذ يجهش بالبكاء كطفل أخذوه من حضن أمه.
 دق جرس الهاتف.. أفزعه الصوت.. أخذ يكفكف دموع، أمسك بسماعة الهاتف أملاً في أن تكون ماري آن هي المتحدث. لكنه فوجئ بجيرالد يعتذر له عما بدر منه. لم يحتمل توم صوت جيرالد عبر الأثير، فوضع السماعة بعنف مكانها دون ان يرد عليه بكلمة واحدة.
كانت ليلة حالكة السواد على توم. انه يحب ماري آن وهو حر في اخبار جيرالد بهذا الحب أو لا يخبره. لكنه جيرالد المتسلط الغيور الذي يظن انه امتلك توم. اتخذ توم قراراً في تلك الليلة بقطع صلته نهائياً بجيرالد.

  في الصباح الباكر خرج متجها الى منزل ماري آن، ظل واقفا قرب المنزل فترة لم يعرف كم طالت. لكنه أراد أن ينتظرها ويسير معها الطريق الى محطة القطار. لم يذهب الى المحطة وحده وينتظرها كما يفعل كل يوم. بل لو كان يستطيع الدخول اليها في بيتها، لفعل ذلك. لكن الوقت مبكراً ولا يصح ان يفعل هذا أويتصرف هكذا كطفل صغير.
  خرجت ماري آن في موعدها متجهة في سيرها ناحية المحطة ولم تر توم سار خلفها وقلبه يكاد يقفز من بين ضلوعه من هلع الخوف. انه يخاف أن تكون ما زالت على ما هي عليه من غضب. لذا فضل السير خلفها محاولا بقدر الاستطاعة أخذ الحيطة حتى لا تراه.
  وصلت مدخل المحطة واتجهت مباشرة الى الدرج. سار بمحاذاتها والقى عليها تحية الصباح. ردت التحية دون ان تلتفت اليه. ترك الدرج وصلا الى رصيف المحطة. لم يفتح احدهما فمه، وقفا صامتين.

استقلا القطار معاً.. جلسا في نفس المكان، وما زال ستار الصمت يغلفهما، لم يستطع لا الاعتذار ولا الحديث عن هذا الصديق الذي ظهر فجاة، بصورة مقززة، لم تعرف أبداً أن هناك اصدقاء بكل هذه السفاهة والتسلط، فعن أي شيء يمكنها أن تتحدث معه.
 وصل القطار الى محكة «وينيارد» حيث مكان وصولها لتهبط من القطار وتتجه الى عملها في يورك ستريت.
 فوجئت بتوم ينهض ويهبط معها. نظرت اليه وسألته بعينيها اين انت ذاهب. طأطأ رأسه ولم يرد عليها لا بشفتيه ولا بعينيه. صعدا السلم الكهربائي سوياً، خرج الى شارع ضيق ثم إلى داخل ممر صغير، عبرا بعده شارعاً الى أن وصلا الى حديقة وينيارد.
 أمام أول مقعد في الحديقة أمسك توم بيد ماري آن ونظر اليها مستعطفاً ان تجلس فوق المقعد.
لم تمانع.. بل جلست في هدوء، لم يجلس الى جوارها بل ركع على ركبتيه امامها، أخرج من جيب سترته علبة، فتح العلبة وأخرج منها خاتماً ذهبياً، أمسك بالخاتم قائلاً لها:
- ليس عندي كلام أعتذر به عن ما حدث ليلة أمس، لكن أقدم لك هذا الخاتم لأطلب يدك للزواج، أرجو ان تقبليه، لأنني لن استطيع العيش بدونك.
 وضعت يدها فوق رأسه.. أخذت أصابعها تلعب في شعره، مدت اليد الاخرى وضمت رأسه اليها، ظلا لحظات هكذا ثم نهضت ممسكة بيده تساعده على النهوض.
 وضع الخاتم في اصبعها.. غابا في قبلة طويلة امتصت كل ما كان بينهما من خلاف.. لم يذهب أي منهما إلى عمله. بل امضيا الوقت سوياً في الحديث عن الزواج واجراءات الزواج، وبالطبع قبل كل شيء طلب يدها رسمياُ من عائلتها.
 تمت الخطوبة، واصرت هي على دعوة صديقه جيرالد. بعد الخطوبة أخذا يستعدان للزواج بالبحث اولاً عن بيت الزوجية، استطاعا بالفعل دفع مقدم شراء منزل، ولحسن حظهما في نفس الحي، وقد تحدد موعد الزواج، بالطبع في أستراليا كل شيء رهن الإشارة. كلاهما يعمل.. وكلاهما له راتب لا بأس به.. وكلاهما متلهف على إتمام الزواج.
 تم فرش المنزل، وتم شراء فستان الزفاف، وقبلت ان يكون جيرالد الصديق الأول له وتم الاتفاق على كل شيء.
  العادات في بلادنا تختلف عن العادات هنا في أستراليا في بعض نواحي ما قبل ليلة الزفاف. وأهم العادات المختلفة هي خروج «العريس» مع صحبه في ليلة قبل الزواج يطلقون عليها Boys night out يودع فيها العريس حياة العزوبية. وتخرج العروس مع صاحباتها ايضاً قبل الزواج يطلقون عليها Girls night out تودع فيها العروس ايضاً العزوبية، كل مجموعة تختار ليلة مختلفة. وهي ليلة مباح فيها كل شيء، وإن كانت كلمة مباح نستخدمها نحن للتعبير فقط عن ما هو مباح وما هو غير مباح، لأن الحقيقة لا شيء غير مباح. غير المباح يحدده الفرد والأسرة التي ينشأ وسطها.
 جاءت ليلة «العروس» وصاحباتها، خرجت ماري آن في تلك الليلة مع كل صديقاتها ومنهن من جاءت من مدينة أورنج ومن مدينة نيوكاسل وغيرها من المدن.
ذهبن إلى المكان الذي يذهب اليه كل المحتفلين والمحتفلات، ذهبن الى الـ Kings Cross حيث يكون المباح أكثر إباحية، شربن.. تحدثن.. ضحكن.. رقصن.. ثم جلسن يثرثرن عن كل شيء دون أن يكون للثرثرة معنى. ومع ذلك اوقفت الثرثرة احداهن وقالت لهن وهي شبه مخمورة:
- بنات.. أريد أن أقول لكن انني رأيت فستان زفاف ماري آن. وهو أجمل فستان رأيته في حياتي.
 تغيرت «الثرثرة» وأخذت طابع الاستفسار والاستفهام، ثم الرغبة الجامحة لرؤيته فوراً.
 خرجن جميعاً وقد عادت اليهن الحالة الهستيرية، والنشوة الى أن وصلن الى المنزل.
 لاحظت ماري آن أن ضوء غرفة النوم مضاءة. تعجبت وسألت نفسها.. هل توم  بالداخل؟!!.. وماذا يفعل؟!!
 أشارت الى صديقاتها بالسكوت التام، بل خلعت حذاءها، وفعلن مثلها. فتحت باب المنزل ومشت على أطراف أصابع قدميها إلى ان وصلت الى باب غرفة النوم الذي كان مفتوحاً.

  وقفت.. ووقف الجميع خلفها.. أشارت اليهن بأصبعها أن لا يتحدثن.. فهززن رؤوسهن بالموافقة. أطلت برأسها داخل الغرفة. لكنها عادت الى وقفتها بسرعة. لحظات وكأنها تستعيد شجاعتهاودخلت داخل مخدع الزوجية.
  وقفت أمام ما رأت خرساء، عمياء ولا تسمع. جيرالد صديق توم مرتدياً فستان زفافها.. وتوم المفروض انه سيتزوجها بعد أسبوع يمارس اللواط معه.
  حاولت ان تصرخ.. فلم تستطع. أمسكت عنقها بيدها.. ثم خرجت الى حديقة المنزل الخلفية The back yard نظرت الى السماء، فرأت القمر في تمامه، واياد كثيرة ممتدة أصابعها تحاول خنقه.
  صرخت صرخة عالية مدوية زلزلت الأرض وهزت السماء. ثم سقطت على ارض الحديقة.
هرعت صاحباتها اليها.. انحنين عليها.. وجدنها جثة هامدة.

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ١٠ صوت عدد التعليقات: ٢ تعليق