بقلم: سامح سليمان
إن أهم ما يميز الإنسان عن الحيوان بخلاف القدرة على المشي المنتصب على قائمين وإمكانية التعبير باستخدام الكلمات المنطوقة والمكتوبة، هو التعقل والتفكير النقدي والابتكاري الناتج عن الإدراك والوعي بالوجود والتفاعل القائم على الفكر في رحلة السعي لتلبية احتياجاته ومواجهة ما يعترضه من معوقات، وليس فقط مجرد تفاعل بيولوجي قائم على إشباع الغريزة والاحتياجات، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي له تاريخ وحضارة ومنتج علمي وأدبي يختلف من عصر لآخر، وطرق مختلفة ومتغيرة لمواجهة ما يهدد سلامته.
والتكيف مع ما يطرأ على العالم المحيط به من ظواهر وأحداث، ولكن تتسبب مجتمعاتنا العربية في إعاقة استمرارية تطوره وارتقائه بسبب ما يحدث بها من تسلط وطغيان مجتمعي يتمثل في تشويه وتحجيم وبرمجه شاملة ومكثفة لوعى الفرد منذ طفولته، وأدلجته بتوريثه توريثًا تلقائيًا إجباريًا لكافة عقائدنا ومعتقداتنا ومرجعياتنا ومناهجنا في التقييم والتصنيف للصواب والخطأ والطبيعي والغير طبيعي، دون إعطائه الفرصة لدراسة تلك الأفكار والقيم والمبادئ والعقائد والمعتقدات بموضوعيه ومنهج نقدي متحرر من أي تصور أو اعتقاد مسبق، ومقارنتها بكافة القيم والأفكار والعقائد والمعتقدات الأخرى، ورفضها ونبذها وتركها كافةً إذا أكتشف وتوصل إلى اقتناع بأفضلية بعض الأفكار والقيم والمعتقدات والعقائد الأخرى وإتاحة الفرصة أمامه لاعتناقها بدون أي تهديدات أو معوقات بل والسماح له بالدعوة إلى ما يعتنقه والسعي إلى اعتناق الآخرين لما يؤيده من عقائد وأفكار سلمية غير إقصائية.
أو تكونت لديه قناعه بتفاهة وضحالة ما أجبرناه على اعتناقه، وقمنا بتلقينه وتوريثه إياه من قيم ومنهج ومرجعية للتقييم والتصنيف الأخلاقي ومفاهيم ورؤى وأفكار وتصورات عن الإنسان والحياة والكون، ومعتقدات ذات أصل أسطوري خرافي قبلي بدائي.
هذا بخلاف ما يحدث في مجتمعاتنا من تقييد لحرية الفكر النقدي الغير مشروط، ومنع الخروج عن دائرة المعتاد والمقبول، وتحريم وتجريم اجتياز الخط المرسوم المتفق عليه والمعد سلفًا قبل ولادة الفرد نفسه بمئات السنيين.
فمجتمعاتنا العربية ذات العقلية الدوجماطيقيه التلقينية الاعتقادية تبرمج الفرد منذ نشأته على النظر للأشياء بنظره ثنائيه الأبعاد وتقييمها وتصنيفها على أساس مفاهيم تراثية قبلية مطلقة جامدة غير مرنة وغير نسبية، بالرغم من أن كثير من الرؤى والأفكار بل وحتى الممارسات المحرمة والمرفوضة حاليًا كانت مقبولة وطبيعية ومستحبة في فترات زمنية سابقة في نفس المجتمعات.
وكانت تمارس علانيةً بحريه وبلا أي غضاضة أو استهجان، لدرجة أن إتيانها كان لا يلقى من المجتمع ألا التأييد والإثناء على من يؤتيها بل وأحيانًا كان يتم وصفه بالبطولة والاستحقاق للافتخار، ومازال البعض منها يمارس بحريه بدون منع أو تجريم في مجتمعات أكثر تحضر ورقى وتقدم وعقلانيه وثقافة ونضج فكرى وازدهار علمي.
إن أبشع جريمة يرتكبها البشر على مر العصور، ضمن جرائمهم المتعددة، بخلاف الإتيان بآخرين دون اختيارهم إلى هذه الحياة العبثية القميئة لكي يقاسمونهم الحيرة والخوف والألم -فالحياة ليست إلا تجلى للغباء والوحشية- هو قتل فطرة الإنسان منذ طفولته ومجيئه غير الاختياري، وهذه الفطرة هي التساؤل والسعي نحو معرفة أصل كل شيء، بإعطائه إجابات جاهزة نمطية مقولبة قد توارثوها على أنها الحقيقة الجلية الصافية والصواب المطلق والنموذج الصحيح، ومعاقبة كل من يبدى رفضه أو شكه أو اعتراضه أو حتى عدم اكتفاءه بما تم تقديمه من إجابات وحلول.
فالاتفاق والتعريف الدائم لمجموعة من المعتقدات والمرجعيات والنظم الاجتماعية والتصنيفات الأخلاقية والرؤى والتصورات عن أصل وطبيعة الإنسان والحياة بأنها الحقيقة المطلقة والصواب الدائم هو إعاقة لاستمرارية تطور الإنسان وارتقائه التراكمي، وحكم ضمني بالموت على العقل لأنه يؤدى لتكبيله وتحجيمه وتقزيمه، وتقييد التفكير وإلزامه بعدم الخروج عن أطر فكرية معينة ربما قد انتهت صلاحيتها منذ أمد بعيد.
فلا يوجد ما يسمى بالحقيقة الصافية الخالصة المطلقة دائمة الثبات والجودة والصلاحية، ولكن توجد ظلال وأشباه الحقائق، وليس من الممكن الوصول إليها إلا ببذل الجهد لمعرفة واستكشاف أبعادها المختلفة وتحمل الاقتراب منها والاحتراق بلهبها.
فالحياة أشكال كثيرة وللحقيقة أوجه متعددة وأكثر من زاوية لرؤيتها -هذا إن وجدت من الأساس- فالإنسان محكوم بدرجة كبيرة بجيناته التي قد توارثها عن والديه وأجداده ومجتمعة وشعبه، وأيضًا محكوم بما قام بتحصيله وتوصل إليه كنتيجة لما وصله من أفكار سائدة في مجتمعه وعالمه والحقبة الزمنية التي ألقت به إليها صدفة ميلاده، وبما لم تستطيع المجتمعات البشرية على مدار حقبها الزمنية أن تمحوه من قيم وأفكار ومعتقدات وأُطر قيمية.
وأخيرًا: (هل تعيش حياتك أم تعاش من خلالها، هل تعيشها كما تريد أم يعيش الآخرين حياتهم ويحققون ذواتهم بك وفيك ومن خلالك؟). |