CET 00:00:00 - 23/04/2010

مساحة رأي

بقلم: نسيم عبيد عوض
قام الدكتور البرادعى منذ أكثر من أسبوع بزيارة مدينة سمنود –محافظة الدقهلية – وفى هذة الزيارة أثبت للجميع أنه دارس للتاريخ وانه ثاقب الفكر والمرجعية , فأولا مدينة سمنود لهامكانة عظيمة فى   قلوب الأقباط فقد زارها السيد المسيح وأمه العذراء مريم وبكنيستها بئر مياه حى حتى اليوم , وتلك المدينة  مركز الشهيد الطفل أبانوب النهيسى حيث يرقد جسده الطاهر  بالكنيسة وتصدر منه كثير من المعجزات  , وهذة المدينة العظيمة قدمت 8 آلاف شهيدا مسيحيا فى يوم واحد رفضوا السجود للأوثان واستشهدوا على إسم المسيح فنالوا إكليل الشهادة, ولمدينة سمنود فى التاريخ المصرى أيضا  إسم محفور بالأمجاد   ففى العصر الحديث قدمت لمصر مصطفى النحاس وقدمت الوزير القبطى ابراهيم باشا  فرج , ولكن الأكثر أهمية أنه على بعد خطوات من مدينة سمنود كانت " أبو صير " عاصمة الدولة الشرقية لمصر فى عام 4200 ٌقيل  الميلاد" ففى عصر ماقبل الميلاد كانت سمنود لها فى التاريخ موضع ومكانة. وكانت زيارة الدكتور البرادعى للمدينة لفتة ذكية منه .

ولا أريد أن تمر هذة اللفتة ولا نتكلم عن أجدادنا المصريين الذين لقبوا بالفراعنة , ففى بداية العصر التاريخى على يد الملك مينا وقد كان حاكما وملكا له هيبة وسطوة قوية وإحترام هائل بلغ حد العبادة , فلقبه رعاياه المصريون " بالمعبود الطيب" ثم لقبوه " بالبيت الكبير" ومعناها بالهيروغليفية ( برعو) وكان يطلق فى البداية على قصر الملك ثم أطلق على الملك ذاته وبعد دخول بنى إسرائيل مصر وعاشوا فيها أكثر من 400 سنة حرف الإسرائيليون الإسم ونطقوه " فرعون" وهذا ماكتبة موسى النبى فى سفر التكوين , ففى البداية إستخدم اسم " ملك مصر" ثم يعود ويستخدم إسم " فرعون" إثنتى عشر مرة فى الإصحاح ألأربعين مع بداية قصة " يوسف " ومن ثم سار اسم فرعون يطلقه موسى النبى على ملك مصر فى الأسفار الخمسة – التوراة-  , ومن يومها والعالم فى كل اللغات يستخدمون إسم " فرعون" على ملك مصر, ونحن نلقب بالفراعنه , ولكن الإسم الصحيح الذى نحبه"المصريين " أو " الأقباط" فى اللغة اليونانية ثم فى اللغة العربية أخيرا.

كان الحكم الملكى فى مصر حكما عريقا يكاد يضارع أعظم الأنظمة الملكية فى العصر الحديث , وبالرجوع إلى النظام الملكى وتقاليد الحاشية الملكية , تقاليد عريقة, فقد كان هناك الوزراء العظام وكبار الظباط, كان هناك رئيس الديوان الملكى , وكبير الأمناء والأمناء, وقد حفظ لنا التاريخ رتب كبيرة وألقاب شرف كان الملك ينعم بها على كبار موظفيه, كان على التشريفاتى ان يراعى هذه الرتب فى الإحتفالات الرسمية أو عند المثول فى حضرة الملك.

وعلى الرغم من مظاهر التقديس والإجلال للملك فلم يكن متعاليا أو منزويا فى كبرياء عن شعبه , ولكن كانت أهم وظائفه الإهتمام بشعبه, والعمل على راحتهم ورفاهيتهم , وكانت أبواب القصر الملكى مفتوحة دائما أمام الشعب وكل طبقاته ويستمع الى شكاويهم ويصدر أوامرة الرسمية لعلاج مشاكل الشعب , بل كان يسمح للمظلومين من الشعب مهما كانت طبقاتهم ان يدخلوا علية القصر ليرفعوا تظلماتهم وينصت إليها وينصف المظلوم منهم, ويكنكم الرجوع الى سفر الخروج لتروا ان موسى وهرون أخاه كانوا يدخلون للملك فى أى وقت وفى أى مكان كانوا يذهبون ويتحدثون إليه ولم يحدث أنه أمر بسجنهم أو تعذيبهم بل كان يستمع إليهم ويناقشهم ,  لم تكن حياة ملك مصر حياة دكتاتورية أو حياة مرفهة , إنما كانت حياة كلها عمل ونشاط يقضى معظم وقته مع مستشاريه فى دراسة شئون الدولة ودراسة مايعرضونه علية من وثائق وتقارير.

كان الذى يلى فرعون ملك مصر فى السلطان هو الوزير " والذى يعرف حديثا برئيس الوزراء, والذى يعملون تحت رئاسته أشبة بوزراء اليوم , فهناك متخصصون فى المالية وآخر للحربية وللعدل والزراعة وغيرهم , وعند تنصيب الوزير يوقفه الملك ويوجه له الوصايا" كن حريصا و مخلصا فى إدارة البلاد , وإذا اتاك مظلوما بشكوى فابحث بنفسك شكواه , وإلتزم جانب الحق والعدل , لا تكن محابيا لأن غضب الله يحل على من يجنح الى المحاباة, ولتكن معاملتك لمن لا تعرفه كمعاملتك لمن تعرفه, ومعاملتك للغريب كمعاملتك للقريب." ويحتاج شرح النظام الإدارى للدولة المصرية العريقة الى كتب ولكن آثارهم مازالت باقية يمكن الرجوع اليها لمن يريد معرفة عظمة وعراقة المصرى القديم أجدادنا العظماء

وبسرعة وإختصار شديد أعرض عليكم بعض جوانب من الحياة والأنظمة التى كانت متبعة فى عصر تلك الدولة المصرية العريقة :
1-  العدالة كانت أساس النظام القضائى فى مصر:  كانت العدالة فى مصرمبدأ جوهريا من المبادئ التى يقدسها المصريون , بل كانت هدفا من أهداف الدولة منذ بداية التاريخ المصرى ويقول الحكيم " بتاح حوتب" ما أعظم العدالة , قيمتها خالدة , مامن إمرىء تعدى عليها إلا حل به العقاب" ويقول الأمير أمنومؤبى لأبنه" لا تقبل هدية رجل قوى, ولا تظلم الضعيف من أجله, لأن العدل هبه من الله " .
وكانت القوانين المصرية من أقدم التشريعات التى عرفها العالم , وقد ثبت ان القوانين الرومانية التى تعتبر اساس التشريعات الحديثة, إستمدت مبادئ قوانينها من قوانين أجدادنا المصريين, وقد توالى سن القوانين منذ عصر الملك مينا كما قال المؤرخ القديم" ديودور" , وفى كثير من الآثار تشريعات الوزير " منتوحتب" التى صدرت عام 1970 قبل الميلاد, وأوامر الملك تحتمس الثالث عام 1480ٌق.م. ونشاهد فى مقبرة الوزير "رخمى رع" صورة له وهو جالس على منصة العدالة وأمامة مجموعة من القوانين فى أربعين مجلدا , وكذلك مجموعة قوانين الملك " حور محب" عام 1330ق.م. والتى جاء فى مقدمتها أن الملك أصدر هذة القوانين تحقيقا للعدل وضمانا لرفاهية الشعب" وكانت تشتمل على شروط تعيين القضاة والمبادئ التى يجب عليهم إتباعها" ان يحكموا بين الناس بالعدل, ان يمتنعوا عن قبول الهدايا والتى تعتبر فى حكم الرشوة, ويقول للقضاة " كيف يمكنكم أن تحكموا بالعدل إذا كنتم أنفسكم جناة على القانون" .

2- الحياة الإجتماعية: وأكبر شاهد على بلوغ الحياة الإجتماعية قدرا عظيما من الرقى والتقدم قول حكيم الدولة القديمة" بتاح حوتب" لأبنه" إذا كنت حكيما , أسس لنفسك بيتا , ,اتخذ لك زوجة تكون سيدة قلبك " , وفى آثار أجدادنا عثر الباحثون على عقد زواج يقول فيه الزوج لزوجته" لقد إتخذتك زوجة , وللأطفال الذين تلديهم لى كل ما أملك الآن وفى المستقبل", كان المصريين القدماء يعتبرون الزوجة أساس البيت ولإدارته ويلقبونها " سيدة البيت" , كان الرجل يكتفى بزوجة واحدة ويخلص لها كما تخلص هى له, وكانت عقوبة الخيانة الزوجية الموت, وكان للمرأة مكانة متميزة فى المجتمع لم تبلغها لدى شعب آخر من الشعوب, وكانت المرأة تتساوى مع الرجل فى كل الأمور, وتختلط بالرجل بدون حجاب , لها من الجميع كل المودة والإحترام , تتساوى فى الميراث مع أخوتها الذكور, وكان لها من الناحية المدنية الحق المطلق فى التصرفات الماليةدون الرجوع لأحد, وحيث كان يبدو من مظاهر الرفاهية والترف للشعب المصرى ان الأسر المصرية كانوا يستخدمون العيبد من الشعوب الغريبة فى خدمتهم , وعموما هناك شواهد كثيرة فى آثارهم مايدل على مابلغة المصرى فى ذلك الزمان من الحضارة والرخاء والتقدم إجتماعيا على غيره من الشعوب المحيطة. ومن أسفار موسى الخمسة لم ترد أية إشارة الى عبودية الشعب المصرى للملك بل كان المصرى هو السيد على أرضه وبلاده وكانت رعايا الشعوب الأجنبية يعملون عبيدا عند المصريين , بل أن المصرى لم يكن يجالس أو يأكل مع هؤلاء الأجانب ويعتبرهم رجس ونجاسة.

3- الآداب وقصة الفلاح الفصيح:  أثبت الباحثين ان الأدب اليونانى ليس هو أقدم أدب فى العالم بل الأدب المصرى  كان أقدم كثيرا من الأدب اليونانى وانه المنبع الذى استقى منه ذلك الأدب , وبينما كان اليونان وغيرهم من الأمم القديمة لا يزالون فى حالة بدائية , كان للمصريين مؤلفات أدبية تميزت بقيمتها الأدبية المجردة , هذا خلاف النصوص الدينية أو الحقائق التاريخية والأجتماعية والعلمية, وهذه المؤلفات الأدبية منذ أربعة آلاف عام ق.م. فكانوا سباقون على الأدب العبرى ايضا والذى هو من أقدم الآداب ولكنه جاء بعد خروجهم من مصر باثنى عشر قرنا من الزمان ثم جاء بعده الأدب اليونانى.

وقصة الفلاح الفصيح كانت عملا أدبيا كتب بعد الثورة الإجتماعية فى أواخر عصر الدولة القديمة, كان من نتائجها تغيير كثير من الظواهر الإجتماعية ورفع مستوى الفرد فى المجتمع والدعوة الى محو الظلم والقضاء على الظالمين , وان الحاكم ماهو إلا راعيا مسئولا عن رعيته , فإذا أهمل فى واجباته كان جزاؤه عند الله رهيبا

.وتتلخص قصة الفلاح الفصيح ( واسمه خوان أنوب) وكان يقيم فى وادى الملح –وادى النطرون- بعد جنى محصوله أخذه متجها الى مدينة أهناسيا –عاصمة مصر- ليبيعه ويحصل فى مقابله على مايعوله وأولادة ثم يعود الى بلدة, لكنه فى الطريق يقابله حاجب الملك –يسمى تحوت نخت- طمع فى ماكان مع الفلاح واستولى علية, وعندما أحتج الفلاح ضربه بالعصا واستولى على حماره وكل مايملكه, فذهب الفلاح الى أهناسيا واشتكى الى رئيس هذا الرجل الذى أخبر الملك بالشكوى , فأعجب الملك بمحتوى الشكوى حتى انه تظاهر بتجاهلة حتى يتقدم بالشكوى أكثر من مرة حتى وصلت الى تسع شكاوى هى قمة فى البلاغة والفصاحة النادرة وفى النهاية أمر الملك بإنصافه واعاد اليه كل ماسبق إغتصابه وأعطاه كل ماكان يملكه –تحوت نخت- تعويضا له عما أصابه , ومما قاله الفلاح الفصيح فى شكواه " ياسيدى دافع عن الفقير واحذر من قرب الآخرة , حاكم السارق, ووقع العقاب على من يستحق العقاب , فليس ثمة ماهو أثمن من العدل, وإلا فهل يميل الميزان؟ لا تقابل الخير بالشر , لا تغتصب , بل أعمل ضد المغتصب, لأنك إذا سترت وجهك عن الشر فمن الذى يكبح إذن جماح الشر... الى آخره من القطع الأدبية الراقية.والتى تعتبر من أبلغ روائع الأدب المصرى القديم وكانت نموزج يحتذى فى عصر الدولة الحديثة.

 أشكر للدكتور البرادعى زيارته الى مدينة سمنود وأهلا بك فى أرضنا العزيزة , والتى أرجعتنى الى ذكريات هذا التاريخ العريق الذى أعشقه و كنت أقوم بتدريسه فى الثمانينات بمعهد الدراسات القبطية بالقاهرة , ويذكرنى باستاذى عطر الذكر المستشار ذكى شنودة الذى كان عميدا للمعهد وصاحب أكبر موسوعة قبطية فى تاريخ الأقباط والمسيحية.

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٢ صوت عدد التعليقات: ١ تعليق