بقلم :نسيم مجلى هذا كتاب جاء فى أوانه ، ليزيل كثيراً من اللبث والغموض الذى علق بأفكار التنوير من جراء ما تثيره قوى الظلام والتخلف من أكاذيب وافتراءات تحاول بها تضليل الشباب وتشويه أعلام التنوير جميعاً من رفاعة الطهطاوى إلى طه حسين وعلى عبد الرازق ولطفى السيد و سلامة موسى حتى لويس عوض. وكتاب " عودة الطهطاوى " للدكتور أنور لوقا هو كتاب مرجعى شامل عن رائد حركة التنوير وعن أصوله الفكرية وطموحاته الوطنية لإنهاض شعب مصر والأمة العربية الإسلامية من ظلام الحكم العثمانى وظلام العصور الوسطى الذى عاشت فيه حوالى أربعة قرون، انقطعت فيه تماما عن العالم الخارجى وعن أنوار النهضة الأوربية التى أخذت تتلألأ على الشاطئء الأخر للبحر المتوسط ، دون أن ندرى بها . عمل بالتدريس فى جامعتى القاهرة وعين شمس بمصر ، وفى مدينة جينيف قام بالتدريس فى "معهد الترجمة " و " معهد المكتبات " وشغل فى الجامعات الفرنسية – " بروفانس " و" ليون الثانية " منصب أستاذ اللغة العربية وادبها . ونظرة عابرة على هذه العناوين تكشف لنا بوضوح أهمية الموضوعات التى يتطرق إليها الكاتب فى هذا السفر الهام . هذا هو المعنى الحقيقى لحركة التنوير من الطهطاوى حتى الآن فلم تكن الاستنارة التى عاد بها الطهطاوى إلى مصر هى مجرد استجلاب أفكار التحرير ومناهج العلوم الحديثة من فرنسا إلى مصر ... بل الاستفاده أيضا بهذه الأفكار والمناهج فى فهم تراثنا وغربلته وكشف ما فيه من غث وثمين. " فقد أحيل الطهطاوى وأعضاء البعثة – قبل السماح لهم بدخول فرنسا – إلى الحجر الصحى بميناء مرسيليا ،مما أثار ارتيابه بل وتسأءله ، أليس فى فرض مثل هذه الوقاية من المرض افتئات على قضاء الله وقدره ؟ إذن لم يكن الطهطاوى عند خروجه فى هذه البعثه العلمية خاوى العقل أو ساذجاً كما يردد البعض، وإنما كان على وعى بتراث أمته وقيمها الدينية ، بالإضافة إلى إلمام واسع بفتاوى المجتهدين من فقهاء مصر وتونس الشقيقة . فإيراده لهذين الرأيين النقيضين إعجاب ضمنى لا بالسبق وحده عند المجتهدين فى تونس ، بل بحرية " المحاورة " بينهما " حيث يعلو الرأى ويعلو الرأى الأخر " . لقد ولد رفاعة رافع الطهطاوى مع مطلع القرن التاسع عشر ودفعته الأقدار فى الثانية عشرة من عمره، إلى مغادرة مسقط رآسة وراء أبيه الذى فر إلى قنا وفرشوط من الضائقة الاقتصادية التى أصابت الأسرة فى طهطا ، فلما بلغ السادسة عشر من عمره ، صحبته الأقدار ليدرس فى الأزهر، اقتداء بأخواله العلماء الشيخ فراج الأنصارى والشيخ محمد الانصارى، وهم الذين تولوا تربيته فى طهطا بعد وفاة والده. وفى ربيع ذلك العام، انتهز محمد على" فرصة مرور السفينة الحربية الفرنسية " لاترويت " فكلف قبطانها "روبيار " أن يحمل معه إلى مرسيليا أربعين شابا ليدرسوا فى باريس . وينبغى أن نذكر فى وضوح أن رفاعة رافع الطهطاوى لم يرسله إلى فرنسا محمد على وإنما أرسله الشيخ حسن العطار . لم يدخل مدرسة اللغة إذن إلا عدد محدود من الصبية الأتراك والشراكسة و الجيورجيين والأكراد والأرمن . ومن هذا الخليط العثمانى انتخب محمد على معظم أعضاء بعثته . لم يكن بينهم من المصريين إلا خمسة، وحينما أوشكت البعثة على السفر، أشارالشيخ حسن العطار على الوالى بأن يضيف إلى الطلبة إماماً يسهر على شئون دينهم فى تلك البلاد البعيدة، ولم يستطع محمد على أن يرفض هذا الاقتراح . وهكذا عين حسن العطار تلميذه رفاعة الطهطاوى إماماٌ للبعثة . وفى باريس اهتم جومار ، مدير البعثة ، بالشيخ الإمام ، وجعله موضوع عنايته الخاصة. كان جومار مهندساً جغرافياً من علماء الحملة الفرنسية الذين اصطحبهم " بونوبارت إلى ضفاف النيل ، وهو الذى اشرف فيما بعد على نشر موسوعة " وصف مصر " وقد أصبح جومار رئيسا للجمعية الجغرافية وعضوا فى " المعهد الفرنسى " ومحركاً لكثير من الهيئات الثقافية والتربوية. ولم ينقطع اهتمامه بمصر، بل اتصل مراراً بواليها الجديد محمد على وافلح فى اجتذاب بعثاته إلى باريس وكانت قد اتجهت فى أول الأمر إلى إيطاليا . توسم " جومار " فى رفاعة الطهطاوى الذكاء ، فوجهه إلى الإفادة من رحلته بدراسة اللغة الفرنسية، وترجمة مبادىء العلوم ، وإنشاء كتاب عن مشاهداته فى باريس، لعل هذا الفتى الصعيدى أن يصير همزة الوصل المنشودة بين ثقافة الغرب وعقلية الشرق . وبعد أن أمضى رفاعة فى باريس خمسة أعوام ، عاد إلى وطنه سنة 1831 زاخر النفس بمعانى حياة جديدة، متحفزاً لعمل خطير هو إصلاح المجتمع المصرى بتعليم الشعب وتنوير العقول . عاد ليعلم ويترجم وينشئء المدارس ويعد المدرسين والمترجمين. يهدم الآراء الفاسدة ويبث أفكار التقدم عن طريق نشر الكتب والصحف والخطب ،دون كلل فى نشاطه على الرغم من القيود التى كان يفرضها عليه محمد على ، ودون أن تفتر همته حتى نفاه عباس إلى السودان . لكنه واصل رسالة الارتقاء التى أمن بها حتى وافته المنية سنة 1873 . إنه رائد عملاق لولاه ولولا الفريق الذى رباه لظلت مصر متخلفة قرونا عن ركب التاريخ . يقرر المؤلف أن الحملة الفرنسية كانت " لقاء عنيفا بين أبناء الغرب وأبناء الشرق، ولم يتح لها قصر الأجل و لا روح المقاومة الشعبية من الاستقرار ما يؤدى إلى اتصال جليل النفع . وللرد على المبالغات بعض المؤرخين فى تقدير النتائج المباشرة لتلك الحملة على مصر يكفينا أن نذكر الجبرتى ، فإن هذا الرجل الذى يعتبر من أكبر علماء عصره لم يستطع أن يدرك من علوم الفرنسيين شيئا، بل إنه لم يحاول أن يتفهم ما شهد من تجاربهم الكيميائية والطبيعية البسيطة، وقنع أخر الأمر بإبداء دهشته وعجزه، إذ يقول : ولهم فيه أمور و أحوال وتراكيب غريبة ينتج منها نتائج لا يسعها عقول أمثالنا " لقد خطت مصر خطوتها التالية حين تفتحت عينا رفاعة على بلاد " الإفرنج " ووضعه " جومار " فى مركز المعارف الجديدة، فأقبل عليها بشغف ونهم فأفاد أكبر فائدة من التوفيق الذى حظى به، فأصبحت رحلته هى أول صورة كاملة للقاء بين الشرق والغرب، وأتحفتنا تجربته بجميع نتائج الاخصاب، لأنها أتت فى ظروف مواتية . لهذه التجربة الفريدة سجل ثمين ـ كتبه بطلها نفسه فى أثناء إجرائها فسماه " الديوان النفيس " بعد أن عنونه " تخليص الإبريز فى تلخيص باريز " ثم نشره وفى أول صفحة منه تقريظ الشيخ حسن العطار ، شيخ الأزهر الذى يؤكد..." بأنه سعيد بأن يقدم للجمهور عمل تلميذه. والكتاب صورة مصغرة لصاحبه " وكما يقول الدكتور أنور لوقا : " يعود إلينا الطهطاوى هذه المرة عبر طريق تونس – و لا غرابة فى إيثار هذا الاتجاه – فقد احتفى به التونسيون ، وتلقف مصلحوهم – من قابادوا وخير الدين وحسين إلى ابن أبى الضياف والسنوسى – كتابه التأسيسى ( تلخيص الإبريز فى تلخيص باريز ) وتابعوا بحثه عن أصالة الإحياء العربى فى منعطف العصر الحديث " |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا |
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا |
تقييم الموضوع: | الأصوات المشاركة فى التقييم: ٢ صوت | عدد التعليقات: ١ تعليق |