CET 00:00:00 - 01/09/2009

مساحة رأي

بقلم: نذير الماجد
إذا كان الحرص على تسمية الأشياء بشكل صحيح هي أقصى ما يطمح إليه الفكر بعد أن كفت الحقيقة عن أن تشكل مطمحا جديا، فإن الحكيم الصيني كونفوشيوس قد تمكن فعلا من ادراك مهمة الفكر الأساسية، حينما أشار في لحظة اشراق إلى أن "الشيء الضروري الوحيد الذي لابد منه هو أن تصحح الأسماء" وعلى اثره ميز كانط بين الشيء في ذاته وبينه كمدرك عند الانسان، وبالتالي تنحصر مهمة الفكر في الاقتراب من الاجابة حول سؤال محدد هو كيف نفهم الشيء لا كيف "هو الشيء".

ولأن التسمية هي الاشتغال الأساسي للمفكر الذي بإمكانه أن يكون نبيا أو مصلحا اجتماعيا تارة أو فيلسوفا تارة أخرى، وكذلك لأن اللغة ليست مجرد قالب يحتوي التصورات التي هي المادة المشكلة للفكر بل هي أيضا مكون أساسي يساهم في تشكيله وبلورته فإن أقصى ما يمكن أن يصل إليه هو أن يكون منتجا ثقافيا، وبالتالي سيتسم بالضرورة بطبيعة نسبية، وهو الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى أفهام متعددة للأشياء التي ستشمل الأديان والأيديولوجيات الفكرية وكل ما شكل على امتداد التاريخ موضوعا مفصليا ومركزيا للفكر، هذه النتيجة ستبلورها أيضا الفكرة التي باتت من المسلمات والتي أحدثت انزياحات واهتزازات واسعة وهي التي تقول بأن ثمة ارتباط يشمل كل حقول المعرفة وأن الفهم ما هو إلا عملية تفاعل وتلاقح معرفي تدمج في داخلها المدركات الذهنية للأشياء.

هل يمكن للثقافة والحال كذلك أن تتعالى على التاريخ؟ بعبارة أوضح: هل أمكن لثقافة ما أو رؤية دينية أن تعمم ذاتها على مجتمعات متغايرة لتظفر بالتالي بالكونية واللاتاريخية بوصفها الثقافة أو الرؤية الدينية الوحيدة العابرة للتاريخ؟ إن أي اجابة على هذا السؤال لن تخل من محاذير واشكالات، فإذا كانت الثقافة ترتكز على التصورات الدينية فإنها ستبدو حتما متعالية ومطلقة لأنها مستمدة من مرجعية فوق تاريخية هي مرجعية الوحي، ولكن هذا الاشكال الذي تتمترس حوله كل الأصوليات الدينية سيفقد نجاعته عندما يتأتى لنا التمييز بين ما يعرف بالحقائق الدينية وبين تصوراتها الثقافية التي يشكلها الفهم البشري للنص وهو نفسه التمييز الذي لمح له كانط بين "الشيء في ذاته" وبين "الشيء المدرك عند الانسان" وفي المقابل لا يبدو هذا الاشكال مطروحا أساسا عند من يجازف بمقاربة الأديان كظواهر ثقافية خاضعة حتما للتاريخ والنسبية.
سيتيح لنا كل ما تقدم امكانية الكشف عن دمج اعتباطي بين مفاهيم متمايزة، الأمر الذي حذر منه كونفوشيوس كما رأينا، فإذا كانت الأصولية الدينية تخلط بين الزمني والروحي، فإنها كذلك تقوم بخلط لا يقل اعتباطية بين الديني والروحي، وهو في أحسن الأحوال ينم عن قصور معرفي إذا لم يكن ناتجا عن قناعة مسبقة أو رؤية أيديولوجية، ذلك لأن الديني والروحي متمايزان وليسا شيئا واحدا، فالاختلاف الذي يفصل بينهما مماثل لذلك الذي يفصل الزمني والروحي، وهو الأمر الذي سيتيح لنا مقاربة مغايرة لاشكالية العلمانية.

باتت مقولة رائجة جدا تلك التي تميل إلى اعتبار أن الحركات الدينية هي حركات اجتماعية في الأساس، يشير هوبرت غريمة إلى أن الاسلام –ومعه كل الأنبياء والأديان كما يتراءى لي- هو رد فعل حول الأوضاع السيئة التي كانت تحيط بالواقع الاجتماعي في القرن السابع، فهو لم يظهر بصفته نظام ديني – أو لنقل روحي- بقدر ما كان يمثل انتفاضة عارمة تستهدف الحد من الأوضاع السيئة المتفاقمة آنذاك، ومع أن المستشرق الألماني تيودور نولدكه الذي أخضع القرآن الكريم للنقد التاريخي العلمي قد شكك في القيمة المعرفية لهذا الرأي، إلا أن الشيء الأكيد هو أن كل الأديان بشكل ما تتسم بهذه الصفة.

إن لغالبية الأديان -والاسلام بشكل خاص وهو الذي يهمنا هنا- عدة تمظهرات أو أبعاد:

- البعد الاجتماعي الناجم عن الطابع القومي الذي سيضطلع في كل دين على حدة بتأسيس هوية الجماعة، وهذا ما جعل المفكر الايراني مصطفى ملكيان يتجاسر بالدعوة إلى الاكتفاء بالتصورات والمعاني والقيم الدينية التي بإمكانها أن تعمم لتصبح قابلة لاجتياز حاجز الثقافة بعد تجاوز تلك التي تتسم بالمحلية في الظاهرة الدينية، فقد لاحظ أن لكل دين ثمة قاعدة قارة تمثل الجانب المحلي الذي كانت مهمته تشكيل جماعة، على الأقل يمكننا أن نشير إلى اللغة أو البنية الميثولوجية فهذه الأشياء لا يمكن الاختلاف حول محليتها وبالتالي طابعها الاجتماعي.

- الطقوس والشعائر، وهو جانب يحمل وظيفة اجتماعية، ولذلك فهو يتفرع عن سابقه خاصة إذا ما نظرنا إليه من زاوية البعد الوظيفي للعمل الطقسي المشحون دينيا، فهو أساسا يقوم بدمج متواصل ومستمر للفرد من خلال آلية التماهي بالجماعة: أي لمزيد من التماسك والانسجام والألفة. وفي هذا الاطار يكمن أيضا البعد الأخلاقي وعلينا هنا أن نذكر نيتشة الذي دعا بشكل لا لبس فيه إلى نسبية الأخلاق التي تنظم كل العلاقات الاجتماعية.

- سيتجلى أخيرا البعد الروحي، وهو الذي بإمكانه وحده أن يعبر التاريخ! ولكنه كجانب عرضي في الأديان يمثل احدى المستويات المضافة لاحقا، فالاسلام مثلا لم يصطبغ بشحنة روحية قبل أن يتوسع على حساب الثقافات الأخرى التي سارعت وفي استراتيجية ثقافية معروفة تماما إلى ادماج ذاتها داخل بنية الدين الجديد، وهذا شيء يدل على روحية متألقة تستوعب الجديد والتي بدونها ما كان للاسلام أن يتمدد على حساب حضارات وثقافات عريقة ليشيد بناءه الحضاري أو الثقافي الخاص.

إن اكتساح تلك المساحة الشاسعة لثقافات متعددة أدى إلى اضافة بعد روحي خصب، فالتصوف كفعالية روحية لم يتشكل إلا عقب التفاعل الثقافي المثمر مع الوافد الهندي والفارسي، وليس المقصود من التصوف هنا تلك الانعكاسات والتجليات الشعبية التي قادت إلى ظهور الدروشة، وإنما المقصود حصرا ذلك التصور المعرفي المنبجس من داخل الذات والناجم عن فهم حلولي متحايث أو متداخل للماورائيات ولكن الأهم هو انفتاحه على التأويل بما أن الغيب ليس سوى مرآة للشهود.

سأجازف هنا لكي أصل إلى نتيجة هي أن الأديان في تمظهرها البدئي لم تكن سوى رؤى ثقافية محكومة بلحظاتها التاريخية التأسيسية، بهذا المعنى يصبح الدين زمنيا تطاله النسبية التاريخية، أما التصور السائد حول الظواهر الدينية بوصفها عابرة للتاريخ فإنما يقوم أساسا على مغالطة تاريخية ناجمة عن اخفاق كبير في "تسمية الأشياء":
فكرة الايمان –مثلا- تتسم بأهمية مضاعفة في النص القرآني، فحضورها اللافت الذي تكرر في مشتقات عديدة نحو 947 مرة، يؤكد تلك الأهمية التي أولاها النص القرآني لهذه الكلمة، ولكن بما أن رسم النص يكاد يدخل في المجال الاجتهادي وبما أن هذا المجال لازال مفتوحا على شتى الاحتمالات فإن أي مغامرة معرفية قد تمنح النص بمجمله مدلولا مغايرا، فماذا لو اشتقت كلمة ايمان من الجذر "أمن" وبالتالي يكون الجمع "مؤمَنون" بفتح الميم الثانية وليس بكسرها وهو المعنى الذي يدل على الثقة وليس بالضرورة التصديق، للكلمة إذن مدلول اجتماعي أو بعبارة أخرى هو أقرب ما يكون لفكرة العقد الاجتماعي وعلى ذلك جاءت كل المضامين التي تؤكد لحمة جماعة المؤمنين وتماسكهم وإخائهم وكل الأحكام والواجبات التي تدور حول فكرة التعاقد الاجتماعي، هذا لا يعني إلغاء البعد التصديقي "العقائد" واستئصالها من مفهوم الايمان في الاسلام ولكنها ستظل تراوح مكانها كعلامات تؤكد المنحى الاجتماعي ولا تتعداه.

ولذلك ليس مستغربا أن يرى المستشرق البريطاني برنارد لويس أن الاسلام لا يفصل الدين عن السياسة وذلك في كتابه "ماذا حدث" والصادر عام 2002م كمحاولة لتفسير أحداث 11 أيلول التي هزت العالم وصوبت الأنظار لتلك الاختلاجات السائدة في الوسط الاسلامي الذي يجفل ويرتاب من أي محاولة للعلمنة، ولكنه في تصوري لم يجانب الصواب حينما تجاهل كل المحاولات الفكرية الرائدة منذ علي عبد الرزاق في كتابه "أصول الحكم في الاسلام" وصولا إلى كل المثقفين العرب الذين لم يذخروا جهدا في اثبات العكس، فالاسلام في تجربته البدئية قد دمج فعلا بين الذروتين السياسية والدينية ولذلك ستبدو كل المحاولات الفكرية التي تسعى لاثبات النفي لا طائل من ورائها، ولكن ومع ذلك فإن العلمنة ستظل ترواح مكانها كمطلب اسلامي معاصر بغية اضفاء ديناميكية أكثر عليه وبالتالي لكي يتمكن من احتلال مكانة لائقة في اللحظة التاريخية المعاصرة، وفي هذا الاطار سيقتصر الجهد المعرفي على اثبات شيء واحد فقط هو: تاريخية التجربة التأسيسية للاسلام.
 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ١ تعليق