بقلم: إيليا مقار
استعرضنا على مدى المقالين السابقين مشروع الدولة الدينية بحسب فكر الإخوان المسلمين، هذا المشروع الذي وضع خطواته الشيخ "سيد قطب" في كتابه "معالم في الطريق". وهو مشروع يمتد من فكرة إحياء دولة البعث الإسلامي، وحتى استخدام الجهاد لإسقاط كل الحكومات التي لا تحكم بشرع الله، لتكون "الحاكمية لله". والهدف من هذه المقالات الثلاث ليس فضح خطورة فكر الإخوان -وإلا أكون هنا كمن يعظ رجال الدين (Preaching the Choir)-، ولكن الهدف هو محاولة تغيير الأسلوب الذي تنتهجه الكنيسة (الممثل الوحيد والمتحدث باسم الأقباط قبلنا أو رفضنا) إزاء خطر الدولة الدينية.
فأكثر ما يثير إزعاجي هو مشاهدة برامج تعترض على فكر الإخوان المسلمين ومشروعهم، وتضع الأقباط كسبب رئيس يدللون به على عدم مناسبة الدولة الدينية لمجتمع متعدد الديانات، وهو حق يُراد به باطل، والباطل ليس فقط في أن هذا الدليل –وفي ظل مجتمع محتقن طائفيًا- يساعد على إستقطاب المزيد لفكر الإخوان نكايةً في الأقباط، ولكن الباطل أيضًا هو أنهم يتجاهلون أن الدولة الدينية خطر على المسلمين أنفسهم وعلى الأنظمة الحاكمة قبل ان تكون خطرًا على الأقباط.
والأخطر هنا، هو ابتلاع الكنيسة وعدد من الأقباط لهذا الطعم، فنهرول نحو الدولة (التي تمارس التمييز والعنصرية بطريقة فجة) تجنبًا لما هو أسوأ، وكأن الدولة تحارب الإخوان حمايةً للأقباط! وكأن على الكنيسة أن ترد الجميل للدولة بالتزام الصمت مهما اشتدت الإنتهاكات في حق الأقباط، وبتقديم أصوات الأقباط على طبق من فضة للحزب الحاكم في الإنتخابات المختلفة دون أي ثمن سياسي -كما يقول مجدي خليل-، فأي نكران للجميل عندما ننتظر المزيد من دولة تحارب الإصولية نيابة عنا!
الدولة الدينية خطر على الأنظمة العربية والإسلامية، فهي المستهدف الأول، وفي فكر الإخوان هذه الأنظمة هي العقبة الكبري أمام قيام دولتهم، لذلك تواجه مصر –على سبيل المثال- جماعة الإخوان المسلمين بضربات أمنية متفاوتة الشدة، كفيلة بوضعهم تحت السيطرة دون القضاء عليهم نهائيًا، فوجود خطر الإخوان ضمن للدولة السيطرة على الكنيسة وضمن ولاءها، واعتقدت الدولة أنها تستطيع أن تلعب نفس اللعبة مع الغرب، وهي لعبة اثبتت فشلها، فالدول الغربية دول براجماتية تعتمد سياسة الممكن وتفتح قنوات اتصال مع أي قوى حقيقية تراها مؤهلة أن تكون حاكمة في المستبقبل.
الدولة اختارت طريقًا غبيًا للسيطرة على فكر الإخوان المسلمين لأنها ليست مستعدة أن تدفع الثمن الحقيقي للقضاء على الجماعات التي تريد القفز إلى السلطة باسم الإسلام، الثمن الحقيقي هو الديمقراطية وحرية إنشاء الإحزاب وحرية الرأي وتداول السلطة. فبدلاً من أن تدفع هذا الثمن، أخلت الساحة من أي نشاط سياسي حقيقي، واكتفت بالمواجهة الأمنية مع جماعات الإسلام السياسي التي ظلت تعمل لسنوات طويلة تحت الأرض. مما أعطى هذه الجماعات ميزة وحرية حركة وحماها من الإنشقاق وهي مميزات لم تتمتع بها الأحزاب شبه الميتة الموجودة الآن.
الدولة الدينية (كما وضع معالمها سيد قطب)، خطر على المسلمين أنفسهم، فهي دولة ممنهجة تصب أتباعها في قوالب القول والفعل، وتجعل منهم أرقامًا ليس إلا، وتحشدهم من أجل هدف هلامي أسمى وهو إخضاع العالم للإسلام -بحسب مفهومهم-، ومن أجل هذا الهدف، سيصبح من قبيل الكفر والخروج على الجماعة أن يطالب أحد بالتنيمة أو تداول السلطة أو الحقوق الفردية، فمن يجرؤ على مناقشه هذه الأمور والأمة في مواجهة مع أعداء الله! إن نماذج الدولة الإسلامية بتاريخها الممتد تثبت أن دماء المسلمين التي سالت على أيادي المسلمين أكثر من تلك التي سالت في حروبهم ضد "الكفار"، فعدم وجود نموذج محدد للدولة الإسلامية يضع بذرة الشقاق داخلها ويحفر مجاري الدم كتلك التي سالت على أيدي حماس في مواجهة جماعة عصبة الإسلام في غزة وكما يحدث في التصادم الدموي بين الفصائل الإسلامية في الصومال والعراق وغيرها.
إني أثق أنه بالرغم من أن عموم الناس تظهر تعاطفًا مع الإخوان نكاية في الحكومة أحيانًا او إنخداعًا بفكرة نصرة الدين أحيانًا أخرى، إلا أن الكثيرين منهم ليسو على استعداد للتخلي عن حريتهم الشخصية ومستقبلهم ومستقبل أبناءهم وقودًا لهذه الفئة. فهل يرضى الآباء والأمهات لأبنائهم ذلك المستقبل المظلم؟ وهل يرضى شخص لنفسه هذه الحياة التي تفتقر للسلام وتمتلئ بالغضب والكراهية؟!
كما أن الغرب –كما الشرق- لن يقف مكتوف الأيدي أمام جماعات تستهدف أمنه وحريته التي كافح من أجل الحصول عليها، ومهما أظهرت الدول الغربية من إعتدال إلا أنها لن تسمح بوجود أي خطر يهدد وجودها، لذلك نري أن العالم –خلال العقدين الماضيين- قد انتبه لخطر الأُصولية الإسلامية بمجرد أن كشرت عن أنيابها وبدأت في التحرش به، فبدأ بمواجهة المتطرفين من خلال عدد من الوسائل، تمتد من برامج تنموية في الدول التي تنتج الإرهاب إلى ضربات عسكرية موجعة للإرهابيين أينما وُجدوا.
الدولة الدينية خطر على الأقباط كما هي خطر على الجميع، ولكن لا يجب مواجهتها عن طريق الإرتماء في أحضان الحكومة (خاصة بعد أن ذاب الفرق بين الإثنين). قد تبدوا فكرة الإستسلام والمهادنة فكرة مقبولة لو كانت أوضاع الأقباط في مجملها في تحسن ولكن الإعتداءات على الأقباط ازدادت تسارعًا وحدة، وتقاعس الدولة وصل إلى حد التواطؤ، لذلك حان الوقت لنعلم أن التصرف بنفس الطريقة لن يقودنا إلا لنفس النتائح، حان الوقت لنتوقف عن تقديم الأقباط للحكومة بدون ثمن سياسي. حان الوقت لأن تعلم الكنيسة أن الأقباط لا يريدون هذا الإستسلام، بل واتجرأ بأن أفصح أن الكثيرين انصرفوا عن الكنيسة رفضًا لممارساتها الرخوة وغضبًا لتخليها عن المطالبة الحقيقية بحقوق أبنائها.
أعلم ان الكنيسة تعمل في ظروف قاسية، ووسط حرب ضروس وتحت ضغوط لم تهدأ منذ أربعة عشر قرنًا، وهي ضغوط كان من المستحيل أن تظل تحتها أي مؤسسة أخرى على قيد الحياة، أعلم أيضًا أن الكنيسة تتخذ هذا المنهج من باب الإشفاق على أبنائها من المواجهة مع النظام، وهي للأسف نظرة أتجاسر وأراها قاصرة! فماذا سيكون تصرف الكنيسة إذا وصل الإخوان للحكم غدًا؟ هل سنرتمي في أحضانهم خوفًا من نموذج للدولة الطالبانية؟!
لذلك يجب أن نغير من إستراتيجيتنا في التعامل مع هذا الخطر، على الكنيسة أن تعد جيلاً مقاومًا يستخدم أساليب النضال السلمي ولا يقبل بالظلم وحينها لن نعبأ بمن يجلس في سدة الحكم، على الكنيسة عدم غض الطرف عن الانتهاكات اليومة لحقوق ملايين من أبنائها من الأقباط مقابل الحفاظ على علاقة طيبة بمسئول يتفضل بالسماح ببناء كنيسة هنا أو هناك أو بإعادة فتاة قاصر إلى أهلها، فحقوق الأغلبية لا يجب أن يتم المساومة عليها والتخلي عنها من أجل مكاسب طارئة.
الكنيسة يجب أن تربي أشخاصًا فاعلين، أقوياء، مناضلين من أجل الحق، وحينها سيكون للكنيسة رجالها الذين سيكونون رقم صعب لا يمكن تجاوزه سواء حكم مصر الحزب الوطني أو الإخوان المسلمين، وقتها لن تكون هناك مشكلة في الحصول على تصريح بناء كنيسة أو إعادة فتاة قاصر الي أهلها، حينها أيضًا سيكون لدينا جيل مقاوم ينضم إلى شركاء الوطن من المسلمين في كفاحهم من أجل الحرية والمساواة.. ليس إلا.
إيليا مقار
elimakar@aol.com |
|
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|