CET 00:00:00 - 23/12/2009

مساحة رأي

بقلم: د. عبد الخالق حسين
هذا المقال هو القسم الثاني من بحث مطول قدمتُ موجزه في الملتقى الفكري الأول في بغداد خلال يومي 4-5 تشرين الأول(أكتوبر) 2009، والذي نظمته
وزارة الدولة لشؤون الحوار الوطني، لمناقشة الأزمة العراقية وأسبابها (1). وقد نشر القسم الأول من البحث بعنوان (دور الطائفية في الأزمة العراقية )(2) كما ونشر القسم الثالث منه قبل أسابيع في مقال بعنوان: (حول إشكالية المحاصصة)(3). وفي هذا المقال أناقش الحلول المقترحة، ودون الادعاء بأنها الحلول السحرية، ولكنها محاولة واجتهادات قابلة للنقاش.

تداعيات السقوط
بدءً أود التأكيد مرة أخرى، أن الذي حصل يوم 9 نيسان (أبريل) 2003 هو ليس سقوط بغداد كما يردد فلول البعث والمتعاطفون معهم، بل سقط النظام البعثي الصدامي الفاشستي، وتحرر الشعب العراقي الأعزل، الذي كان مغلوباً على أمره، من أبشع نظام همجي ديكتاتوري عرفه التاريخ، ليبدأ ولادة دولة عصرية جديدة لكل العراقيين دون استثناء، مبنية على أسس الديمقراطية الحقيقية ودولة المواطنة والقانون. وبعد كل هذه المظالم التي تعرض لها الشعب العراقي لأربعين عاماً من حكم التيار القومي، وخاصة البعثي الفاشي، فلا يمكن ولادة دولة ديمقراطية بدون آلام ومضاعفات وتداعيات، إذ كما قال الفيلسوف الألماني هيغل: "إن ولادة الأشياء العظيمة دائماً مصحوبة بألم". والديمقراطية هي من أعظم ما أنتجته الحضارة البشرية، لذا فلا بد وأن تكون مصحوبة بآلام ومضاعفات وتضحيات.

لذلك لا أعتقد أنه كان ممكناً تجنب التداعيات التي حصلت بعد سقوط نظام البعث الصدامي وما حصل من فوضى وأعمال شغب ونهب وفرهود وقتل الأبرياء وتدمير الممتلكات، ولكن كان من الممكن التخفيف منها فيما لو اتخذت قوات التحالف وقادة المعارضة آنذاك إجراءات احترازية مسبقة قبل التغيير لمنع الانفلات الأمني وعمليات النهب والفرهود، ومواجهة عصابات الجريمة المنظمة، ومنظمات الإرهاب من فلول البعث وحلفائهم أتباع القاعدة، بحزم منذ البداية، وتحديد مرحلة انتقالية من ثلاثة إلى خمسة أعوام، لتتم خلالها السيطرة الكاملة على البلاد، والمباشرة ببناء الدولة العصرية وأجهزتها الأمنية والاستخباراتية، وقواتها المسلحة من المستقلين والتكنوقراط على أسس حديثة ثابتة ومتينة، وتجهيزهم بكل الوسائل الحديثة اللازمة، وتثقيفهم بالانضباط العسكري والولاء للوطن، وفرض الأمن لحماية أرواح الناس وممتلكاتهم من الأشرار، واحترام وحماية الحكومة المدنية الديمقراطية، والعمل على إزالة مخلفات البعث وعقلية الانقلابات العسكرية من الجيش الجديد، والمباشرة بإعمار العراق، وبناء مؤسسات المجتمع المدني، ونشر ثقافة الديمقراطية وروح التسامح، ومن ثَّم تهيئة الأجواء للانتخابات والانتقال التدريجي إلى الديمقراطية.

ولكن مع الأسف الشديد أراد الأمريكان والمعارضة العراقية السابقة (الحاكمة اليوم)، أن يقفزوا بالعراق من نظام صدام حسين القمعي الدموي والمتطرف في الاستبداد الجائر، إلى النظام الديمقراطي الكامل بين عشية وضحاها، ودون أي تحضير أو مقدمات. أي أنهم تعاملوا مع الشعب العراقي الذي تعرض إلى كل هذه المظالم والنكبات عبر قرون، وخاصة في العقود الخمسة الأخيرة، بمثل ما يتعاملون مع شعوب الدول الغربية العريقة في الديمقراطية.

إلا إنه من الجانب الآخر، يجب أن نعترف أنه ليس هناك أسهل من توجيه الانتقادات وإلقاء اللوم على الآخرين، وإطلاق الأقوال الحكيمة بعد فوات الأوان، أو كما يقول الإنكليز:
(It is easy said than done). وفي جميع الأحوال، لا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وتلافي الأخطاء التي ارتكبت منذ 9 نيسان/أبريل 2003 لحد الآن، بل يجب استخلاص الدروس والعبر من أخطاء الماضي وتصحيحها، إذ رغم كل ما جرى من فواجع، فهناك أمل كبير في بناء عراق ديمقراطي مزدهر فيما لو توفرت لدى أهل الحل والعقد النوايا الحسنة والإرادة القوية في معالجة الأوضاع بجدية. لذلك، وفي هذه الحالة، يجب الاستمرار في العملية الديمقراطية بكل إصرار، دون أي تراجع عنها أو تساهل إزاء العقبات.

والإجراءات التي نقترحها لحل الأزمة العراقية بعد أن تم تشخيصها ومعرفة أسبابها، وإعادة النظر في السياسات السابقة، ودراسة الأوضاع في تاريخ العراق وواقعه الراهن، وثقافته الاجتماعية culture، وغيرها من الأسباب المباشرة وغير المباشرة التي أدت إلى خلق هذه الأزمة وتفاقمها وتفجيرها، وبالتالي يجب تبني سياسة علمية واضحة وصريحة، ووضع الحلول الناجعة لمعالجتها بشفافية لمنع تكرارها في المستقبل، ولتحقيق هذه الأهداف النبيلة نقترح الإجراءات و الحلول التالية:
1- احترام تعددية مكونات الشعب: يجب الاعتراف بأن الشعب العراقي، شأنه شأن معظم الشعوب الأخرى، متعدد الأعراق والأديان والمذاهب والقبائل...الخ، وأن تعددية مكونات الشعب ليست لعنة أو سبة، بل هي مدعاة للفخر والتآخي والوحدة في بوتقة الوحدة الوطنية والولاء للوطن، وإثراء المجتمع لو أحسن التعامل معها بعقلانية وعدالة، إذ كما يقول المثل الانكليزي (unity is in diversity) أي الوحدة في التعددية. ولكن الوحدة في التعددية لن تتحقق إلا إذا تعاملت الدولة مع جميع مواطنيها بالتساوي في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص لتشعرهم بأنهم مواطنون من الدرجة الأولى وليسوا مواطنين على درجات متفاوتة. فالصراعات بين مكونات الشعب العراقي في الماضي كانت بسبب التمييز بينها، وغياب العدالة، ومحاباة مكونة على المكونات الأخرى، واستئثار فئة واحدة منها بالسلطة والثروة والنفوذ والوظائف المدنية والعسكرية وغيرها على حساب المكونات الأخرى. لذلك وفي هذه الحالة تتفشى العداوة والبغضاء بين مكونات الشعب الواحد، إضافة إلى عداء هذه المكنات للسلطة المستبدة الغاشمة.

كما ويجب التأكيد أنه لا يمكن معالجة الطائفية والعنصرية بطائفية وعنصرية مضادة، وإلا سنستمر في هذه الحلقة المفرغة من الصراعات الدموية المهلكة إلى حد الانقراض، لذلك يجب كسر الحلقة المفرغة. كما ونؤكد على أن الهوية الوطنية والولاء للوطن لا يلغيان ولا يتعارضان مع الاحتفاظ والاعتزاز بالانتماءات والهويات الثانوية مثل القومية والدين والمذهب والقبيلة، ولكن في جميع الأحوال، تكون الأولوية للولاء الوطني. لقد حاولت الحكومات المتعاقبة ما قبل 2003 إلغاء الهويات والانتماءات الثانوية لمكونات الشعب العراقي، وصهرها قسراً في بوتقة واحدة بذريعة الحفاظ على الوحدة الوطنية، ولكن النتيجة كانت معكوسة، إذ أدت هذه العملية إلى تخندق مكونات الشعب في هوياتها وانتماءاتها الثانوية على حساب الهوية الوطنية والولاء للوطن. لذا فالحل هو المساواة بين أبناء الشعب في الحقوق والواجبات، والاعتراف بالهويات الثانوية، وعندها سوف لن تتعارض الانتماءات الثانوية مع الولاء للوطن والهوية الوطنية.

2- بناء دولة المواطنة: وتأسيساً على المقترح رقم واحد، نستنتج أن الحل الوحيد لمنع تكرار الكارثة مستقبلاً، وتحقيق السعادة لجميع أبناء الشعب الواحد، هو بناء دولة المواطنة الصحيحة، ونبذ التمييز بين المواطنين بجميع أشكاله، الدينية والطائفية والعرقية والقبلية والمناطقية (الجهوية)، واحترام حقوق الإنسان بما فيها حقوق المرأة والطفولة...الخ، وفق اللوائح والقوانين التي أصدرتها المنظمات والمحافل الدولية، وصادقت عليها الحكومات العراقية المتعاقبة، إذ يجب أن يتمتع جميع المواطنين بالحريات الديمقراطية وبسائر الحقوق الأخرى، بأن لا يكون لأية فئة منها، ومهما كانت صغيرة أو كبيرة، أي امتياز على غيرها في الوطن.

3- الديمقراطية الليبرالية والعلمانية هي الحل: لا يمكن تحقيق دولة المواطنة إلا بتبني النظام الديمقراطي الليبرالي، ولا يمكن تحقيق الديمقراطية الليبرالية إلا بتبني العلمانية الديمقراطية. ونؤكد هنا على تعبير (العلمانية الديمقراطية) لأن فيها وحدها ضمان لحرية الأديان والمذاهب والمعتقدات المختلفة، خلافاً للعلمانيات الأخرى مثل العلمانية البعثية والعلمانية الشيوعية في الاتحاد السوفيتي وخاصة في عهده الستاليني. لذلك نرى أن المبادئ الأربعة: (المساواة- المواطنة- العلمانية- الديمقراطية) مترابطة ومتماسكة لا فكاك فيما بينها، وإذا ما أُسقِطَ احد أركانها، تهدمت الأركان الأخرى. كما ونؤكد على العمل وفق شعار (الدين لله والوطن للجميع). فحرية حق أتباع الأديان والمذاهب المتعددة في الدولة الواحدة بممارسة شعائرها وطقوسها العبادية لا تتحقق إلا في نظام دولة المواطنة العلمانية الديمقراطية الليبرالية، كما هو واضح ومتبع في الدول الغربية الديمقراطية.

لقد أثبتت البحوث العلمية أن الأنظمة المستبدة وخاصة المؤدلجة منها بالأيديولوجية الدينية أو الشيوعية أو الفاشية، تؤدي بالضرورة إلى تفشى الكراهية والبغضاء والعداء والتناحر بين مكونات الشعب الواحد، والتردي في الإنتاجية والتدهور الاقتصادي، بينما النظام الديمقراطي الليبرالي العلماني وحده يعمل على نشر المحبة والمودة والانسجام والتماسك والوحدة الوطنية بين أبناء ومكونات الشعب وزيادة الإنتاج الاقتصادي. أما ما يجري الآن في العراق من صراعات في ظل الديمقراطية، فهو امتداد للعهود السابقة وبسبب أعداء الديمقراطية الذين يعملون على إجهاضها، ولكن هيهات. (4)
 
4- التحالفات السياسية: إن التحالفات السياسية بين الأحزاب الفاعلة في العراق الآن في معظمها مبنية على برامج وانقسامات واستقطابات دينية وطائفية وليست سياسية، وهذا يتناقض مع روح الديمقراطية ودولة القانون والمواطنة التي تتطلب أن تكون التحالفات فيها مبنية على أساس البرامج السياسية والتنمية البشرية والاقتصادية لخدمة الشعب كله وليس لطائفة أو فئة معينة. فتحالفات الأحزاب المبنية على الأسس الدينية والمذهبية تعمق وتكرس النزعة الطائفية في البلاد وتباعد بين مكونات الشعب الواحد، وتهيئ لتفجير صراعات دموية لاحقة.

5- العمل على إزالة تركة البعث الساقط: المطلوب شن حملة ثقافية واسعة ومتواصلة بدون انقطاع، تشارك فيها أجهزة التربية والتعليم والإعلام، ابتداءً من العائلة والروضة إلى الجامعة، يساهم فيها بفعالية، علماء النفس والاجتماع والتربية والكتاب والصحفيون، لإزالة مخلفات الأفكار الفاشية والطائفية والعنصرية الضارة بالمجتمع، والقطيعة التامة مع شرور الماضي وبالأخص أيديولوجية البعث، والعمل على نشر ثقافة الديمقراطية وروح التسامح ومفهوم المواطنة، واحترام حرية الفرد والحفاظ على كرامته، وحق التعددية والاختلاف القومي والديني والمذهبي والسياسي والتعايش بسلام. ومنع الترويج للعنف والعنصرية والطائفية، والعمل على تطهير مناهج التعليم في جميع مراحله من كل ما يسيء إلى الثقافة الإنسانية والوحدة الوطنية أو يحرض على بث الفرقة بين أبناء الشعب الواحد. كما وأقترح إدخال المواد التالية في التعليم الثانوي: الفلسفة، وعلم الاجتماع، وتاريخ الأديان المقارن. فهذه المواد تساعد على تهذيب نفوس النشء الجديد، والتعايش السلمي واحترام الأديان والمذاهب المختلفة، والتخلص من التعصب الديني والطائفي والقومي.

6- عدم زج المرجعيات الدينية في السياسة: مع تأكيدنا على احترام المرجعيات الدينية ودورها في حفظ السلم الاجتماعي ونشر روح التسامح بين أتباع مختلف الطوائف الدينية، نطالب القادة السياسيين بعدم زج المرجعيات وتوريطها في الشأن السياسي، كما ونؤكد على منع استخدام الرموز الدينية منعاً باتاً في الحملات الانتخابية والمنافسات السياسية أو أي نشاط سياسي وإصدار الفتاوى الدينية لأغراض سياسية.

7- الموقف من دول الجوار: يجب اتخاذ موقف حازم من دول الجوار التي ساهمت وما تزال تساهم في دعم الإرهاب وإشعال الحرائق في العراق، ومطالبتها بوقف تدخلها في الشأن العراقي دون تردد، وأخذ الإجراءات اللازمة بوقفها عند حدها، وفضحها أمام الرأي العام العالمي، ومقاضاتها أمام المحاكم الدولية التابعة للأمم المتحدة إذا اقتضى الأمر.

8- تعديل الدستور: يجب تعديل الكثير من مواد الدستور، وخاصة فيما يتعلق بصلاحيات المركز والمحافظات والأقاليم، وإعطاء الأولوية للمركز، إذ لا يمكن لأية دولة أن تضمن أمن وسلامة الشعب وازدهاره الاقتصادي ما لم تكن الحكومة المركزية هي الأقوى، إذ لا يجوز أن يكون الجزء أقوى من الكل. ويجب أن تكون الحكومة المركزية هي وحدها المسؤولة عن الثروات الطبيعية وإدارتها واستثمارها وتوقيع العقود مع الشركات الأجنبية، وتوزيع ريعها بالتساوي على الشعب. كذلك الحكومة المركزية وحدها المسؤولة عن إصدار العملة، والعلاقات الخارجية وقيادة القوات المسلحة، والدفاع عن الحدود ضد العدوان الخارجي.

9- المشكلة الكردية: يجب التعامل مع هذه المعضلة بشفافية وحلها بشكل عادل ونهائي دون أي لبس أو غموض أو إجحاف بحق أي طرف. لقد عانى الشعب العراقي بجميع قومياته كثيراً من هذه المشكلة المزمنة التي كانت أحد أهم الأسباب لعدم استقراره وتقدمه وازدهاره.
لذلك فقد آن الأوان لتعديل الدستور الفيدرالي لوضع حل عادل وواضح يحقق العدل والإنصاف للجميع. وعليه أقترح أن تختار القيادة الكردستانية واحداً من إثنين: إما دولة كردية مستقلة، أو القبول بالحكم الذاتي (اللا مركزي)، ضمن الدولة العراقية الفيدرالية على غرار الفيدراليات المعروفة في العالم، مع حق الحكومة المركزية في القيام بجميع المهمات التي وردت في الفقرة 8 أعلاه من هذه المقترحات. أما البلدات والمدن الحدودية المتنازع عليها، فيجب أن تحل عن طريق استفتاء سكان كل بلدة أو مدينة فيما إذا يرغبون في البقاء مع العراق أو كردستان. ويجب احترام آراء ورغبات أكثرية سكان تلك المناطق. (وللمزيد من التفاصيل، أرجو مراجعة مقالنا الموسوم (الخيار الكردي، بين الاستقلال والفيدرالية.... )(5)

10- منصب رئيس الجمهورية: اقترح تعديل الدستور فيما يخص مهمات رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء. هناك تطابق وازدواجية في مسؤوليات هذين المنصبين الكبيرين، وهذا يؤدي إلى صراع بينهما، كما حدث حول من يمثل العراق في مؤتمر القمة العربي في قطر في شهر مارس عام 2009، وأخيراً قام رئيس الوزراء بذلك. ونلاحظ تكرار هذه المشكلة عندما يتطلب الأمر تمثيل العراق في مؤتمرات القمة الدولية في الأمم المتحدة. لذلك أقترح تعديل الدستور بأن يكون رئيس الوزراء هو المسؤول التنفيذي والقائد العام للقوات المسلحة دون أي التباس أو غموض، أما رئيس الجمهورية فيجب أن يكون منصباً تشريفياً وليس تنفيذياً، ينتخب من قبل البرلمان، ليقوم بالواجبات التشريفية فقط، ويمثل رمزاً للوحدة الوطنية، ويفضل أن يكون من الأكاديميين البارزين المستقلين، وكل مرة يكون من أحد أطياف الشعب العراقي، أسوة بالهند.
وهذا يتطلب إلغاء مجلس الرئاسة والمادة الدستورية التي تعطي حق النقض لأي عضو من أعضاء هذا المجلس لقرارات البرلمان، لأن هذا الحق يتناقض مع الديمقراطية ويفرغها من مضمونها. فالبرلمان هو أعلى سلطة تشريعية منتخبة من قبل الشعب ويصدر القوانين باسم الشعب. وعليه فهذه المادة ضد الديمقراطية وتشل البرلمان وحق الأكثرية في تشريع القوانين، وتكون سبباً لعدم الاستقرار، وتعطي الحق لشخص واحد غير منتخب من قبل الشعب بإلغاء قرار اتخذه برلمان منتخب من الشعب، وهذه  حالة فريدة وشاذة لا مثيل لها في جميع الأنظمة الديمقراطية في العالم. وعليه يجب إلغاء مجلس الرئاسة والاكتفاء برئيس تشريفي للجمهورية مثل الهند وسويسرا وألمانيا وغيرها. 

11- خطر الانفجار السكاني: أعتقد جازماً أن الانفجار السكاني يلعب دوراً كبيراً ومهماً في تحويل التعددية العرقية والدينية والطائفية والسياسية إلى قنابل موقوتة، وتفجير الصراعات الدموية فيما بينها في العالم الثالث، والعراق ليس استثناءً. ففي أوائل القرن العشرين كان تعداد نفوس العراق في حدود المليونين نسمة. قفز هذا الرقم إلى أكثر من 30 مليون نسمة في وقتنا الحاضر، أي أزداد عدد نفوس الشعب العراقي 15 ضعفاً خلال أقل من قرن. يقابل ذلك التردي في خصوبة التربة وازدياد الملوحة، وشح المياه، واتساع التصحر والأزمة الخانقة في السكن. وبعبارة أخرى، تحقيق المالتوسية، (نسبة إلى نظرية توماس مالتوس، والتي مؤداها، أنه عندما تفوق زيادة السكان إنتاج الغذاء، تنشب الحروب الداخلية أو الخارجية أو كلتاهما). وللمزيد حول هذا الموضوع، يرجى مراجعة مقالنا بعنوان (دور الانفجار السكاني في حروب الإبادة)(6). لذلك لا يمكن تحقيق التنمية البشرية والاقتصادية والسلم الاجتماعي إلا بإيجاد حل جذري لمشكلة الانفجار السكاني الذي يمثل بحد ذاته الدمار الشامل.

ضمانات لنجاح الديمقراطية الليبرالية وتطبيق العدالة
لضمان نجاح واستمرارية دولة المواطنة الديمقراطية العادلة، يجب وضع بعض الآليات والضوابط أوجزها بما يلي:
أولاً، تشريع قوانين لمكافحة التمييز أو التفرقة بين المواطنين وخاصة في التعيينات في وظائف الدولة وغيرها.

ثانياً، تشريع عقوبات قانونية ضد من يمارس التمييز الديني أو الطائفي أو القومي أو المناطقي، ويحرِّض أو يثير مشاعر العداء والكراهية بين العراقيين على أساس التمييز العرقي أو الديني أو الطائفي..الخ

ثالثاً، تشكيلة هيئة مراقبة: رغم أن الدستور الحالي، كما الدساتير السابقة، قد ضمَّن حقوق المواطنين في المساواة وعدم التمييز بينهم، إلا إن مع ذلك كانت هذه الحقوق تستباح وتنتهك بمنتهى السهولة والعلنية في جميع العهود، لذلك، ولمنع تكرار التجاوزات على حقوق المواطنين، نقترح تأسيس هيئة مراقبة (Ombudsman) لمراقبة تنفيذ التشريعات ومنع التمييز والتفرقة بين المواطنين، وأن يكون أعضاؤها ورئيسها من الخبراء بالقانون، ومشهود لهم بالوطنية والنزاهة، يتم اختيارهم من قبل البرلمان وتكون مسؤولة أمامه. ومن حق أي مواطن يشعر بالغبن جراء التمييز، تقديم شكوى إلى هذه الهيئة لتقوم بالتحقيق والملاحقة لرفع الغبن عنه، ومعاقبة الجهة الممارسة للتمييز وفضحها في وسائل الإعلام (Name and shame).
رابعاً، ضرورة تصديق البرلمان على التعيينات في الوظائف من درجة عليا معينة فما فوق، قبل أن تصبح نافذة المفعول.
خامساً، الالتزام بالمادة 9، الفقرة أولاً، من الدستور العراقي التي تنص على إشراك أفراد من جميع مكونات الشعب في هيئات ضباط القوات المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية بما يراعي توازنها، دون تمييز، يتناسب مع عدد ونسبة نفوس كل مكونة من مجموع الشعب العراقي.

قد تبدو هذه الشروط وكأنها دعوة للمحاصصة الطائفية، وجواباً على ذلك نشرت القسم الثالث من هذا البحث قبل لأسابيع في مقال مستقل بعنوان: (حول إشكالية المحاصصة)(3)، أرجو الرجوع إليه للتوضيح.

على أية حال، أعتقد أن هذه الشروط الضامنة لدولة القانون والمواطنة والديمقراطية الليبرالية، هي كفيلة لحماية حقوق الأفراد والجماعات من التمييز، وتساعد على استقرار الأوضاع إلى أن تصبح الديمقراطية تقليداً شائعاً يحترمه الجميع. فكما ذكرنا مراراً، أنه لا تولد الديمقراطية متكاملة، وخاصة في مجتمع لم يعرفها ولم يمارسها من قبل كالمجتمع العراقي، بل تحتاج إلى وقت لتستقر، وتواصل النمو نحو التكامل، فالديمقراطية هي عملية تراكمية وهكذا بدأت في الشعوب الديمقراطية العريقة بحقوق بسيطة وبعد صراعات دامية، ومشاكل كثيرة عبر إرهاصات عسيرة إلى أن صارت تقليداً وجزءً لا يتجزأ من ثقافة وأعراف وأخلاق وسلوك تلك الشعوب. وما يعانيه العراق الآن من آلام هو إرهاصات المخاض العسير لولادة الدولة العراقية الديمقراطية العصرية.

خلاصة القول: إن العلة الأساسية للأزمة العراقية هي ردود أفعال للتمييز الطائفي والعرقي منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 إلى انهيارها عام 2003، والحل الوحيد لهذه الأزمة يكمن في إقامة دولة المواطنة الديمقراطية العلمانية، يكون فيها الدين لله والوطن للجميع.

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ١ تعليق