CET 00:00:00 - 04/02/2010

مع رئيس التحرير

بقلم: عزت بولس 
رفض...غضب...حزن .. مشاعر سلبية تجتاحني منذ ليلة الميلاد الماضي 6 يناير، حيث كنت داخل الكنيسة أحتفل مع غيري بميلاد المسيح وسط أجواء روحانية   مريحة للنفس، إلا أنني فؤجئت باتصال يؤكد لي مقتل عدد من الشباب المسيحي في عمر الزهور وقت خروجهم من الكنيسة من قِبل أناس أياديهم آثمة ملوثة بالدماء وقلوبهم حجرية لا تعرف معاني الرحمة والحب، أما عقولهم فقد فقدوها منذ زمن بعيد بعد أن تفخخت بمفردات الجريمة والشعور بلذة إيذاء الآخرين المرضية.
بحكم طبيعة عملي الحالي، كان لزامًا عليَّ أن أكتب تعليقي أو بمعنى أدق تحليلي لكارثة" نجع حمادي" وحقيقة حاولت بالأيام الأولى لتلك المأساة الكتابة، لكنني تراجعت خوفًا من أن تدفعني شحنة انفعالاتي الداخلية السلبية في مجملها إلى تغييب لغة الحديث العاقل الهادىء والانزلاق للغة أخرى لها مصطلحاتها الطنانة وتعبيراتها الرنانة المعروفة، والتي وإن كانت ستسعد الكثيرين إلا أنني سأكون غير فخور بها على المدى الطويل، لإيماني بأن الكتابة ليست بأي حال من الأحوال وسيلة لـ"فش الغل وتفريع شحنة الانفعالات أيًا كان نوعها".

2010 لديَّ إيمان قوي بأنه لن يكون عامًا عاديًا أو متوسط السخونة، فالشواهد جميعها تؤكد على أنه سيكون ساخنًا جدًا... الانتخابات الرئاسية على الأبواب، ووجوه جديدة ظهرت بقوة وليس على استحياء للمنافسة لتطرح بأذهاننا تساؤلات من قبيل هل سيحدث تغيير حقيقي؟ إذا حدث التغيير هل سيكون فكريًا أم فقط سيقتصر على كونه مجرد عملية استبدال للوجوه؟ الشباب هل سيكونون فعليًا قادرين على أن يمدوا الشرايين المتصلبة لهذا المجتمع بدماء جديدة تنقله لمستقبل أفضل خالٍ ولو جزئيًا من الأمراض المتوطنة الآن في وطن له حضارة عمرُها 7000 عام؟.
 جماعة "الإخوان المسلمون"هل ستؤثر الخلافات الدائرة بين قياداتهم على حجم مصداقيتهم بين البسطاء من المصريين؟.
 الأقباط هل سيكون عام 2010 بداية لخروجهم من صوامع الاختفاء التي يعيشون بداخلها ليلعبوا دورًا تفاعليًا أكبر مع المجتمع الذي يتنكر لوجودهم، ومن ثم يغفل جوانب هامة وأساسية في حقوقهم كمواطنين؟..

أسئلة وغيرها كثير أعتقد أن إجاباتها ستتحدد خلال 2010.. لا جدال فتلك الأمور لم تعد تحتمل الترحيل لأعوام أخرى.  
جاء السادس من يناير 2010 وقدم أصحاب الأيادي الملوثة بالدماء والعقول الممتلئة بالتعصب والكراهية هديتهم المشئومة لمسيحيي نجع حمادي، تلك الهدية التي تحولت معها بهجة العيد للون الأسود، وتبددت مع تفاصيلها الموجعة للقلب الأمل في أن يحمل العام الجديد لمسات الشفاء لجروح عام مضي وحمل الكثير من الإيذاء لمسيحيين وجدوا أنفسهم فجأة متضررين من أحداث طائفية هم ليسوا المُتسببين في اشتعالها بأي حالٍ من الأحوال، ولكن الذي أشعلها ويزيد من لهيبها يوميًا من يروج لفكرة أن المسيحيين داخل مصر ليسوا إلا "أهل ذمة" منقوصي المواطنة، بل والمؤسف أنه أحيانًا يتمادى هؤلاء في الانتقاص من حقوق المسيحيين واصفين إياهم بأنهم غير مستحقين للحياة ذاتها، على اعتبار أن الحياة منحة للمؤمنين فقط، والمسيحي بنظر هؤلاء غير مؤمن أو غير موحد بالله، ولهذا فسحب منحة الحياة منه بالقتل أمر مشروع جدًا ونجع حمادي أحد أهم أدلة ذلك الفكر المقيت الخطير الذي ينتشر كالوباء بالخطاب الديني الإسلامي دون أن يردعه أحد، فقط نتجرع مرارة نتائجه.
ما وقع ليلة الميلاد الماضي ترك في ذهن ونفس أي أنسان طبيعي ذكريات موحشة جدًا وألمًا كبيرًا ليس من السهل تخطيه، التاريخ أيضًا يشاركنا المتابعة وسيذكر ذلك الحدث دائمًا كبقعة سوداء على جبين المواطنة المصرية، ولن يغفله أبدًا كما نفعل نحن أحيانًا مع أحداثنا الكبيرة التي نخجل من تذكرها ومن ثم نخجل من البحث عن أسبابها وعلاجها فتتفاقم وتكبر ونعجز عن السيطرة عليها.

الكشح 2000... نجع حمادي 2010، مذبحتان كبيرتان لمسيحيين بصعيد مصر، لكل منهم تفاصيله المختلفة إلا أنهم يشتركون في كونهم مذابح"جماعية" لأناس أزمتهم الحقيقة بعين المعتدي أنهم"مسيحيون"، فقد نحو تسعة عشر مسيحيًا بالكشح حياتهم فجأة ولم يشعر بهم أحد للسيطرة الأمنية على الوضع ككل في ذلك الحين، ولخوف وسائل الإعلام من عرض تفاصيل حادث بهذا الحجم من البشاعة والقسوة، الأمر ليس كذلك بالنسبة لنجع حمادي فقد حدثت طفرة إعلامية في تناول الحدث بقوة وصراحة غير معهودة ولا يمكنني أن أرجع ذلك التغيير لسبب واحد، فهناك جملة من الأسباب برأيي وراء ذلك، منها اتساع مساحة الحرية الإعلامية نسبيًا وانطلاقها دون قيود عبر الانترنت تحديدًا، وزيادة مساحة الوعي لدي الأناس الموجودين بمنطقة الأحداث الطائفية وإدراكهم أن ما يتعرضون له من انتهاك يستحق أن يُعرض لفضح بشاعته، وهم يستخدمون في ذلك المتاح لهم من أجهزة محمول وغيرها، إضافة لذلك كله، أن الأحداث الطائفية أصبحت الآن مفضوحة الدوافع والتفاصيل بما لا يدع أي مجال للتلاعب في تقييمها.  
الجرأة الإعلامية التي حدثت مع عرض تفاصيل مذبحة نجع حمادي ساهمت بجزء كبير في كشف جرحنا الغائر"الأحداث الطائفية" وذلك الكشف برأيي بداية جيدة للبحث عن علاج، كما أن تلك الجرأة امتصت الكثير من الغضب القبطي إزاء تلك الأحداث، لكن كما يقولون "الحلو ميكملش والطبع يغلب التطبع" حيث ظهر وسط تلك الطفرة الإعلامية بالتناول لحدث طائفي كبير، المسئولون الحكوميون بعبارتهم المعتادة التي يرددونها منذ ثلاثين عامًا ويتفننوا في تنويعها بمصطلحات النفاق والكذب، والتي يعتقدون زيفًا أنها تحمي الوطن وتجنبه نيران الاحتقانات الطائفية لكنها غير ذلك ولا تكشف سوى ازدواجيتهم وعدم قدرتهم على تحليل الأمور بشكل صحيح واستسهال الدوران بشكل لا نهائي في فلك عبارات ومصطلحات خائبة.
تتجلى قمة الازدواجية لدى بعض المسئولين المصريين في تغير مواقفهم من حادثة مآذن سويسرا ومذبحة نجع حمادي، فغالبيتهم كانوا يرون أنه يجب عرض نتائج استفتاء المآذن بسويسرا على المحافل الدولية للضغط وتغيير إرادة شعب، وهم أنفسهم ذات المسئولين لم يعترضوا على تدخل الغرب بالقوة المسلحة في البوسنة والهرسك واعتقال ومحاكمة الرئيس السابق "ميلوسفيتش" دون أن يعتبروا ذلك تدخلاً بشأن داخلي لبلد، المؤسف والكارثي بحق هو وصف د. أحمد كمال أبو المجد مظاهرات الأقباط بالخارج للتنديد بأحداث نجع حمادي بـ"الهوس" ولا أفهم كيف يقوم رمز وممثل مؤسسة حقوقية مفترض أنها الأكبر بمصر بإطلاق ذلك الوصف على مظاهرات حقوقية في دوافعها وأهدافها ليبقي السؤال الأصعب هل كان لسيادته ذات التقييم للمظاهرات التي اجتاحت مصر وبعض الدول الأوربية عند مقتل مروة الشربيني؟ الإجابة معروفة لا تحتاج للكثير من التفكير وتظهر مدى ازدواجية وتخبط معايير الكثير ممن هم على رأس الأجهزة الحكومية المصرية.

6 يناير 2010 إذا فكرت بتفاصيله الحكومة المصرية ستستطيع استخراج الكثير من العناصر التي تُشكل في مجموعها بصيص أمل لتغيير المستقبل نحو الأفضل لكل المصريين، بحيث تتخلى عن المفردات التي فقدت قيمتها من كثرة تكرارها وتؤمن أن الإساءة لسمعة مصر ستنشأ من التراخي في مواجهة الأزمات الطائفية والتمييز بين المواطنين، والتنكيل بهم ومحاربتهم في مصدر معيشتهم لا لشيء سوى لعقيدتهم الدينية ولعلنا نتذكر جيدًا القرار المؤسف بإعدام الخنازير والذي أساء لسمعة مصر بحق وجعل العالم ينظر لنا بسخرية وهو يعلم أن دافع القرار ليس الحماية الصحية على الإطلاق.
سينمو بصيص الأمل عندما يدرك المسئولون أن عبارة "شئوننا الداخلية" ليس لها أي مجال عند الحديث عن أي قضايا متعلقة بـ"حقوق الإنسان" والقضية القبطية داخل مصر تدخل ضمن إطار القضايا الحقوقية ولهذا أي إنسان بأي مكان من حقه أن ينفعل بها ويشعر بمعاناة أصحابها، ولنلقي بعيدًا الفكرة الأزلية المغلوطة التي تقول إن الغرب ليس إلا مستعمرًا مُحتلاً، عالم اليوم ليس كعالم الأمس، لقد أصبحنا جميعًا نعيش داخل قرية صغيرة بلا حدود ومعاناة الإنسان في أي مكان وعلاجها والاهتمام بها ليس قاصرًا على أبناء النطاق الجغرافي لمن يعانون، إنما كل إنسان يجد في ذاته إحساسًا بمعاناة ذلك الآخر.
6 يناير 2010 يحمل بداخله بصيصًا من الأمل في إنعاش التعايش والصفاء المفقود بين المسلمين والمسيحيين، لأن بشاعة الحادث وقسوة وغدر الفقدان لأهالي الضحايا هز وجدان كثيرين من المسلمين وجعلهم يشتركون فعليًا بمشاعرهم في بعض الأحزان القبطية وذلك فرصة ذهبية لتنمية فكرة التعايش والقبول، وإذا استثمرت بشكل واعٍ ستحقق على المدى الغير طويل نتائج جيدة ستعيد لأذهاننا صورًا حقيقية وليست مزيفة من الماضي للحب والسلام بين المصريين.

لهذا، ومن منبر "الأقباط متحدون" أدعو الجميع مسلمين ومسيحيين للقيام بتظاهرة سلمية متحضرة داخل مصر للتنديد بمذبحة نجع حمادي في يوم الأربعين للشهداء الشباب الذين أنهت يد الغدر حياتهم التي هي لم تبدأ بعد، كما يمكن أن يشارك الأقباط المتواجدون خارج مصر بتلك التظاهرة من خلال القيام بمثيلتها ببلاد معيشتهم، وبتلك المشاركة الإسلامية المسيحية سيظهر للعالم أجمع عمق فهمنا لـ"المواطنة" بشكل حقيقي وليس مزيفًا.
ومادمنا نتحدث عن قيمة ومعنى وأهمية التظاهرات السلمية المعبرة عن الغضب النبيل والخوف الصادق الحقيقي على مستقبل مصر، لا يمكنني إغفال الحديث بإعجاب وفخر عن التظاهرات التي انطلقت في شتى بقاع الأرض من قِبل الأقباط بدول المهجر، والتي كانت سلمية متحضرة راقية تشارك فيها الجميع على اختلاف أطيافهم الصغير مع الكبير، العلماني الفكر مع المتدين، الجميع معًا بتلقائية وحماس لم يسبق له مثيل، والتي تدل على أن القبطي بالغرب نجح في التخلي عن أنانية الفرد وظهرت أنانية الجماعة في العمل كوحدة واحدة بنضج فكري كبير جعل الغضب والحزن بعيدًا عن أي تجريح، تلك التظاهرات المهجرية أعطت دلائل هامة لمن يعتقد أن الأقباط المهتمين بالشأن المصري داخل دول المهجر ليسوا إلا مجرد حفنه صغيرة عالية الصوت، فقد اتضح أنهم مجموعة كبيرة جدًا مؤمنة بقضية حقوقية بالأساس.

بالنهاية أود أن أؤكد على أن مذبحة نجع حمادي الأخيرة ناقوس خطر يدق بقوة منبهًا إيانا إلى أن الشارع أصبح مهتاجًا إلى الحد الذي سيصعب معه أن تُسيطر الأجهزة الأمنية على الأمر، فحتى الآن لا يمكنني أن أتصور أن يقوم أحدهم بإطلاق نار عشوائي على أناس بالشارع لا ذنب لهم سوى أن ديانتهم "مسيحيون".. عار على شعب مصر العريق صاحب الحضارة أن تحدث مثل تلك الجريمة البشعة بمفرداتها على أرضه ثم تجد من يقوم بالتفسير مؤكدًا على أن الدافع نصف مشروع وهو الدفاع عن "الشرف" –قضية الفتاة 12 سنة- فلنفيق من غفوتنا ونبدأ من خلال التعليم والإعلام وبيوت العبادة في إعادة بناء المواطن المصري على قيم المواطنة الأعلى من أي قيم أخرى.
  إن نتائج إهمال علاج الأزمة الطائفية داخل مصر من أخطر ما يمكن، فمصر أمامها تحديان خطيران بالمستقبل هما " المياه، والأقباط"، كما كتب محمد حسنين هيكل، ويمكن أن نضيف إليهما الانفجار السكاني الذي يقتل كل أمل في مستقبل اقتصادي أفضل.

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٢٠ صوت عدد التعليقات: ١٣ تعليق