CET 00:00:00 - 04/11/2009

مساحة رأي

بقلم: نذير الماجد
بالتحليل السيسيولوجي تتكشف العلاقة بين المجتمع والدين، وهي علاقة ترتكز على قاعدة أولية توحي بالتأثير المباشر للتحولات الاجتماعية على النسق الديني بكل انعكاساته القيمية والأخلاقية والفكرية، ولكن هذا التأثير يتفاوت تبعا لحجم التحول الاجتماعي حيث ثمة تناسب طردي بينه وبين التحول في الأنماط الدينية، فإذا كان الانعطاف التاريخي سيحدث اهتزازات عميقة مماثلة في الأسس الاعتقادية، فإن التحول الظرفي مهما كان طفيفا سيؤدي هو الآخر إلى اضافات أو تعديلات متناسبة مع حجم التحول ولكنها لن تتجاوز على الأرجح شكل الاعتقاد أو انعكاساته السلوكية والانفعالية.
ستشكل هذه القاعدة أرضية خصبة لتفسير الظاهرة الدينية وحجم انتشارها وذلك انطلاقا من فهم طبيعة المجتمع، وبالتالي فإن الاجابة على سؤال "كيف هو المجتمع" سيحدد تلقائيا شكل الاجابة على سؤال رديف: "كيف نفهم النسق الديني"، على أن هذه العلاقة ذات طابع جدلي تمنح النسق تأثيرا مماثلا بعد أن ينصهر في بنية المجتمع ويصبح ثقافة.
عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي قد سجل هذه الملاحظة عند دراسته لطبيعة المجتمع العراقي، حيث وجد أن القبائل البدوية التي استقرت في الريف قبل أن تجتاح المدن قد تحولت إلى التشيع بكل ما يحمل من تخمة طقسية وغيبيه مسكنة، ولكن هذا التشيع الطقسي لم يتمكن من اختراق سياج البادية التي تقتضي البساطة في التفكير والمباشرة والحرفية في الاعتقاد، في حين وجدت السلفية والأصولية ترحيبا واسعا وتربة خصبة بين تلك القبائل، وبالمثل لاحظ الوردي تبعا لملهمه ابن خلدون أن الحياة المدنية والمجتمع المدني ستفرز بشكل أو بآخر أنساقا ثقافية معقلنة، وبالتالي سنتمكن من تمييز ثلاثة أنماط من العلاقة بين المجتمع والثقافة: الحياة المدنية تنتج العقلانية، والحياة الزراعية تنتج الطقس والأسطورة والحياة البدوية تنتج السلفية. 

سيبدو الخلاف من هذه الزاوية بين الاسلام السني والاسلام الشيعي خلافا شكليا تحدده الحاجة الاجتماعية، فحتى تلك المجتمعات السنية التي انتقلت إلى مرحلة الزراعة استعاضت عن التشيع الطقسي بالتصوف الذي يؤمن لها حاجتها إلى الطقوس، لأن الطقس الذي له بعد وظيفي سيكولوجي يعبر في الأساس عن حاجة اجتماعية خاصة بالمجتمعات الزراعية، وهذا لا يعني انعدامها كليا في حياة البادية إلا أنها ستكون حاجة ملحة خاصة في تلك المجتمعات الانتقالية، حيث تتأكد الحاجة الاجتماعية النفسية للطقوس والشعائر التي ترتكز على آلية الاسترجاع الجماعي التي تعيد إلى الذاكرة الشعبية الأصول والقيم وتساهم في ترسيخها في المجتمعات التي تعاني من صراع قيمي وانفصام اجتماعي بحيث تضطلع بمهمة حماية الذات من الذوبان والاستلاب.
وهكذا تتكشف لنا عدة تمظهرات دينية: التشيع الطقوسي، التصوف الشعبي الذي يتبدى من خلال الطرق الصوفية والدروشة، وثم التفكير السلفي، وكلها تشترك في خصلة واحدة هي استبعاد العقل، فلئن كان التفكير السلفي يرسخ الحنين والتعلق بالماضي فإن الطقوسية والشعائر التي تجمع بين التصوف والتشيع الطقوسي ستحل العاطفة محل العقل، والجماعة محل الفرد، والتقليد محل الايمان، والانتماء الطائفي محل المواطنة والسلوك المدني وأخير الاغتراب محل الاصالة والكينونة الذاتية.

وإلى جانب هذه الاستقالة الجماعية من العقل ثمة قاسم مشترك آخر يجمع بين الدوغمائية السلفية والطقوسية هو إلغاء الآخر: إن كل طرف يسعى إلى استئصال الآخر بحكم طبيعته السراطية "الأرثوذوكسية" وكل مذهب يسعى إلى الانتشار على حساب الآخر، ضمن معارك وسجالات مذهبية أثبت التحليل السوسيولوجي عبثيتها، هذه الحرائق العبثية تهجس بالواقع الديني في المجتمعات المتأخرة وتستأثر باهتمامها، وذلك تعويضا عن الاخفاق في احراز أقل قدر من التنمية والنهوض، فالتوسع الجغرافي للجماعة "الطائفة" ليس سوى حقنة مخدرة تلجأ إليها الجماعة التي تعاني من انحسار في الخيارات التنموية وانكماش الأمل في التقدم والازدهار.
وليس من باب المصادفة أن تلجأ الأصولية والتي تمثل التعبير الأيديولوجي لهذه المجتمعات المأزمة إلى السجال الطائفي المزمن والذي هو كالوباء في تفاقمه وانتشاره في جسد الواقع العربي والاسلامي، حيث يأخذ هذا السجال بتلابيب الفكر والعقلانية ليزج بهما معا في متاهات التبشير والاستبصار، حتى الحوار الذي يشترط في الأساس العناية بحق الاختلاف سيتحول إلى مساحة مواتية لممارسة هاجس التبشير، مادام كل طرف يزعم أن بينه وبين الحقيقة اقترانا شرطيا، وأنه وحده الذي يمثل جوهرها، ورغم أن هذه السراطات المستقيمة لا تسمح بأي تهديد لجبهتها أو اقتراب من سياجها الحصين إلا أنها لا تتورع عن تهديد جبهة الآخر والاقتراب من حدوده. ازدواجية في المعايير وفوضى رهيبة نشهدها في هذا الصراع العبثي الذي يجنح لتصفية الآخر وإبادته، لأن حق الاعتراف بالآخر هو وحده الغائب في كل هذه المعمعة الجنونية.

نسمع كثيرا عن محاولات لنشر التشيع وأخرى لنشر التسنن وكل طرف يرتاب من الآخر ويتشكى منه، تلك هي ظاهرة التبشير التي لا يتورع أصحابها حتى عن التلويح بالرغيف وبريق الدرهم والدينار للوصول لأجندته، إذ لا تستثني من جنونها التبشيري حتى القرن الأفريقي رغم ما يحمل من عذابات وألم وجوع، فالمجتمعات التي يطوقها الفقر هي المرشحة وحدها لتصفية الحسابات بين المذهبين الغريمين المتصارعين، وهنا تلجأ ظاهرة التبشير إلى ابتزاز فج ومبتذل يتلخص في المقايضة التالية: آمن معي وسأمنحك قطعة خبز وكيسا من النقود.   
ولكن صرعات التبشير تتخذ أشكال وصيغ عديدة، فتتخفى خلف ستار الحوار المذهبي تارة وتفصح عن وجهها السافر في مؤلفات ذات طابع رمزي عنيف تارة أخرى، آخر هذه الصرعات كان كتاب صادر بعنوان "صرخة من القطيف- انهيار وانتحار" للمؤلف صادق السيهاتي، وهو كتاب حظي بتجاوب واسع في الأوساط السلفية وراج كثيرا في المنتديات الالكترونية، وبمعزل عن مصداقية المؤلف أكان ينتمي حقا إلى مدينة القطيف ذات الغالبية الشيعية أم لم يكن، فإن ما يهمنا أنه يمثل نموذجا كاشفا للذهنية المذهبية الضيقة والتي تقود لعبة السجال المذهبي.

 الكتاب يعالج قضايا عقدية وفقهية عديدة كالعصمة والموقف من الصحابة وعبادة القبور وزواج المتعة والخمس وغيرها من ملفات شائكة هي محور اهتمام الطرفين بين أخذ ورد، يزمع المؤلف أنه يعالجها بروح موضوعية  وحتى نقدية معرفية محايدة ولكني أميل إلى الاعتقاد أن المحاور الأساسية التي انطلق منها الكاتب في صرخته لا يمكنها أن تصل إلى الاشكاليات الجوهرية التي تغلف التفكير الديني برمته، لذلك يلوح لي أنه وقع تحت تأثير ردة فعل انفعالية ازاء بعض السلوكيات الخرافية والمجانبة للعقل والتي قادته إلى موقف لا يقل بعدا عن العقل بحيث يوشك على اعتناق تصور ديني أكثر تزمتا ودوغمائية وهو الفكر السلفي تحت مظلة ابن تيمية وابن القيم ومن لف لفهما ولذلك ستبدو كل الاشكاليات والمآخذ من الهامشية والسخف بحيث تثير ضحك الانسان المعرفي الذي يحاول أن يلتزم جادة النقد المعرفي الرصين دون أدلجة مسبقة.

ما هو واضح هنا أن الكاتب يثير اشكالات سطحية قشرية تشي بقصور معرفي ونقص مخجل في الحاسة النقدية المعرفية: المتعة التي لها وجه سلفي أسوأ بكثير هو زواج المسيار، تهمة عبادة القبور التي ستكون شركا وفق عقلية ظاهرية تجمد التأويل وتلتزم القراءة الحرفية الجامدة منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، شتم الصحابة التي هي بمعنى موازٍ اضفاء العصمة عليهم  والعصمة كما نعرف هي إحدى التهم السلفية ضد الشيعة ولكن الأدهى من ذلك أن هذه الذريعة تقود إلى اضفاء القداسة على اللحظة التأسيسية للتجرية الاسلامية برمتها وبالتالي تجمد العقل في القراءة الموضوعية للتاريخ الاسلامي ما دام الصحابة كلهم -وليس فقط الأئمة- يتمتعون بارتقائهم لجة العصمة والقداسة. وهذا يؤكد أن العقلية التي نسجت هذه السطور النقدية ليست مؤهلة إلى أن تحدث أقل اهتزاز في القناعة الشيعية لسبب بسيط وهو أن العقل الشيعي جزء أساسي من التفكير الديني الذي يشمل العقل السلفي وكلاهما يتقاطعان في خصلة مشتركة هي استقالة العقل.
ولكي نفكك النزوع الدوغمائي نحتاج إلى خطاب معرفي حر ومستقل بمناهج معرفية معاصرة، نحتاج إلى علوم انسانية وتاريخية وليس إلى أدلجة تفر إلى أدلجة ليست أقل سوء، فالخروج من الطائفية والتمذهب يحتاج إلى عقل حداثي ومخزون ثقافي عالي المستوى ولذلك فإن هذا الكتاب كما يبدو لي ليس أكثر من شكوك سطحية على درجة مخجلة من التبسيط، ولكنه يكشف عن أزمة أخذت تنخر الجسد الديني جراء الهيمنة الكلية لرجال الدين على الضمائر والفكر وخشيتهم الشديدة من كل صرخة نقدية ستتجاوز حتما هذه الصرخة لتنتفض ضد الأصولية الدينية برمتها.

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق