وكأننا نحرث فى بحر، أو لعله حوار بين طرشان، الكل يتكلم ويتمترس عند موقعه لا أحد يسمع إلا رجع صدى صوته، يراكم عليه ويحوله الى حائط صد يتحصن خلفه، ندور فى ذات الدائرة على مدى أكثر من نصف قرن، العالم من حولنا يتغير بسرعة مذهلة بينما الزمن عندنا توقف بل تراجع وأتى إلينا بقضايا عفا عنها زمن غيرنا.
تقول دولة مدنية فيتهمونك بالعلمانية والدهرية والدنيوية، ثم يزايدون عليك ويختطفون المصطلح ويقولون بأن الدولة المدنية منتج إسلامى، تدور معارك فكرية وسياسية ومنطقية حول ماهية الدولة فيذهبون بك إلى أن الدين هوية ويبتلعون الوطن بتعدده وتنوعه فى دائرة الدين، وتجد نفسك خلف اسوار اتهامات معاداة الدين والمقدس، وضلوعك فى مؤامرة كونية ضدهما.
كان الجدل يدور قبلاً حول المادة الثانية من الدستور التى صيغت بدهاء لتغازل عصب الدين المكشوف والملتهب فى مرحلة انكسار ما بعد هزيمة يونيه 67، وتأخذ الأنظار بعيداً عن تعديل مواز يتراجع عن تحديد حق تولى رئاسة الجمهورية بمدتين لتصبح "مدد" فى تعديلات مايو 1980 على الدستور، ليصبح الإسلام دين الدولة والشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع، بعد ان كانت مصدراً فى دستور 71، وقبلها كانت ضمن مصادر التشريع، وهو تطور كان يترجم حالة الشارع الذى صار فى قبضة تيار الإسلام السياسى بدعم رئاسى.
كان الجدل مشروعاً وكانت القوى المدنية تكافح لإلغاء المادة الثانية بجملتها، حتى تفتح الطريق لتحقق الدولة المدنية التى تنأى بالدين عن صخب الجدل السياسى وتحفظ له قدسيته، وتجنب البلاد والعباد ومن ثم الوطن الدخول فى الإحتراب الدموى كما حدث فى أوروبا قبلاً فى عصورها الوسطى، ومع رياح التغيير العاصفة التى اجتاحتنا بعد 25 يناير لم يعد هذا الجدل مقبولاً بل اعتبر عند تيارات الإسلام السياسى تعدياً وتحدياً ومعاداة للدين نفسه، وصرنا نواجه بأنها مادة فوق دستورية، ويتطور الأمر بتحصينها بالمادة 219 فى دستور 2012 المعيب، وغيرها من المواد التى تغل الحراك الاجتماعى السوى وبنفس المغازلة الساداتية يصيغون المادة الثالثة التى تحق للمسيحيين واليهود الإحتكام لشرائعهم فى تنظيم احوالهم الشخصية واختيار قيادتهم الدينية، وهى مادة لم تأتِ بجديد فقد كفلت المادة الثانية هذا الحق الذى تقول به نصوص قرآنية صراحة، ثم يتطور الأمر الى التهديد بالمصادمة من قبل حزب النور السلفى إذا تم المساس بنصوص "الهوية"، فى مغالطة فادحة وتحجيم معيب لمعنى الهوية، والمختزل عندهم فى الدين وحده.
وفى هذا يقول الدكتور سعد الدين هلالى ـ استاذ ورئيس قسم الفقه المقارن بكليه الشريعه والقانون جامعه الأزهر ـ (جريدة الوطن السبت 31 / 8 / 2013) فى مقال له بعنوان (لماذا نرفض المادة 219 من الدستور المعطل؟) [إن مصطلح الهوية الإسلامية لا يعرفه الفقهاء المسلمون الذين لا يشقون صفوف الناس ولا يقطعون أرحامهم بمثل تلك المصطلحات التى تفرق بين بنى الدين الواحد وتبث الكراهية والعداوة بينهم. وإنما اعتنى الفقهاء بمصطلحات القرآن والسنة فاكتفوا باسم الدين الذى اختاره الإنسان لنفسه يلقى به ربه، كما قال سبحانه: «لكم دينكم ولى دين» (الكافرون:6)]
ويحدد الدكتور الهلالى معنى الهوية بقوله [الهُوية - بضم الهاء- هى مصدر صناعى من كلمة «هو»، مثل الأنانية من كلمة «أنا»، ومثل الإنسانية من كلمة «إنسان». ولا يعرف الفقهاء المسلمون مصطلح الهُوية هذا وإنما تعاملوا معه كلفظ عربى مجرد، وكان الذى اصطفاه مصطلحاً هم الفلاسفة، وحاول بعض اللغويين المعاصرين، وهو الدكتور عبدالهادى بوطالب فى كتابه «معجم تصحيح لغة الإعلام العربى» أن يشرح هذا التعريف فقال: «الأصل فى الهُوية -بضم الهاء- أنها إجابة لسؤال من هو فلان؟ وما يجىء فى الجواب هو هُوية الشخص: اسمه وجنسيته ووطنه وخصائصه. نقول إذن: هُوية شخص، وهُوية شعب، وورقة الهُوية.].
وينتهى العالم الجليل الى قوله [إن الذين يتزيدون بالمادة 219 من الدستور المعطل التى وضعوها بأيديهم يفتعلون معركة وهمية فى رؤوسهم، ولا يدل الظاهر إلا على سعيهم لكسب أصوات البسطاء بالعاطفة الدينية، وهو ما سميناه التجارة الدينية الرخيصة.].
ونجد انفسنا أمام دولة دينية بامتياز تجعل تنظيم العلاقات المجتمعية وصياغة القوانين فى يد تيار لا يرى فى غير المسلمين مواطنين كاملى المواطنة، فلهم ما تسمح به رؤية هذا التيار فى الشريعة حتى لو تصادم مع عقادئهم، ليتحولوا الى رعية لولى أمر، أو جالية فى وطن. ربما لهذا عُصِفَ بمصطلح المواطنة واستبعد من موقعه فى المادة الأولى من الدستور.
وتتحول حقوق المواطنة لغير المسلمين ـ من الكتابيين ـ الى منح وهبات وفتات ساقط من موائد هذا التيار، أما غير المسلمين خارج دائرة الكتابيين فلا حقوق لهم ولا اعتراف بهم. ويتحول الدستور من عقد اجتماعى توافقى يؤكد الحرية والعدالة والمساواة ويؤسس الحقوق ويرتب الواجبات على أساس الإنتماء للوطن إلى عقد إذعان، وتوظف قواعد الديمقراطية عنوة لتمريره، بقياسات الأغلبية والأقلية، وتهدر فلسفة الدستور بكونه وثيقة توافقية تحمى حقوق الفرد لكونه مواطناً ووفق خياراته الشخصية الأساسية التى اقرتها وثائق حقوق الإنسان فى العالم بجملته.
ما يمارس الآن إرهاب حقوقى وسياسى لا يمكن قبوله ونحن نؤسس لدولة مدنية حقيقية، حتى لو تحصن بحشود، يتم تجييشها فى مرحلة مرتبكة وغائمة، لتقويض الوطن وسلامه الاجتماعى واندماجه التاريخى، بغية استرداد سلطة انهارت وسيطرة عصفت بها إرادة ملايين المصريين فى 30 يونيه وما بعدها.
ولا يمكن القبول بالتعامل مع الأقباط باعتبارهم طائفة يحميها غيرهم، فهم مكون تاريخى وقائم ودائم فى وطن يحميهم شأن كل المصريين.
الكرة الأن فى ملعب لجنة الخمسين المنوط بها التصدى للتعديلات الدستورية فى مهمة شاقة وثقيلة وتحديات حقيقية تتطلب جسارة كتابة دستور مدنى من الألف للياء، بغير التفات لمحاولات اختطاف الوطن الى عصور وسطى جديدة فى ضوء متغيرات كثيرة ومكتسبات انسانية تعلى من قيمة الإنسان لكونه إنساناً.
البوابه نيوز
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع