نحن نتحدث كثيراً فى هذه الأيام عن القوة الناعمة، أى عن الثقافة وهى بادرة تدعو للتفاؤل وتبشر بالخير، لأننا مثلنا مثل أى جماعة إنسانية نحتاج للثقافة، وربما كانت حاجتنا نحن بالذات للثقافة أكثر إلحاحاً من حاجة الكثيرين، خاصة فى هذه الأيام. وذلك لأسباب كثيرة أولها: أننا خلَّفنا وراءنا ماضياً حافلاً بالتجارب والآلام انتزعنا منه أنفسنا انتزاعاً فى ثورتين متتاليتين وأسقطنا نظماً، وقدمنا فى ذلك تضحيات غالية، وأصبحنا مهيئين لمستقبل نتجنب فيه أخطاء الماضى ونستفيد بخبراته وتجاربه.
والثقافة بالنسبة لنا ليست نشاطاً جديداً أو بضاعة مستوردة بل هى تراث قديم سبقنا به غيرنا، لأننا بدأنا حياتنا المشتركة قبل أن يبدأها غيرنا.
والثقافة المشتركة شرط جوهرى للحياة المشتركة لأننا لا نستطيع أن نعيش معاً أو نعمل أو نتفاهم أو نتجاوز المشكلات التى تواجهنا إلا بلغة مشتركة وغايات مشتركة وأفكار وتقاليد وقوانين نتفق عليها ونشارك فى وضعها والالتزام بها ولا نحتاج بالطبع إلى أن نقول إن الحياة المشتركة شرط لظهور الثقافة المشتركة، لكننا بحاجة لأن نتذكر أن حياتنا المشتركة نحن المصريين بدأت قبل عشرة آلاف عام. ولهذا سبقنا غيرنا للثقافة التى طلعت شمسها من مصر وعلت فيها وأضاءتها وأضاءت ما حولها أكثر من ثلاثة آلاف عام.
من هنا حاجتنا للحديث عن الثقافة، لأن الثقافة بالنسبة لنا تكاد تكون لون بشرة أو جنسية نفقد أنفسنا لو فقدناها وهذا ما حدث لنا فى العصور التى غابت فيها شمسنا أو أدركها الكسوف.
فى هذه العصور التى بدأت فى القرن السادس قبل الميلاد ولم تنته إلا منذ قرنين فقدنا كل شىء، فقدنا استقلالنا ففقدنا حريتنا. وفقدنا حريتنا ففقدنا قدرتنا على أن نفكر كما كنا نفكر وأن نبدع كما كنا نبدع.
ونحن ننظر لماضينا فيهولنا هذا الانقطاع المفاجئ المخيف الذى حدث بين ما كنا عليه فى العصور القديمة وما صرنا إليه بعدها كأننا سقطنا من حالق أو خرجنا من النعيم إلى الجحيم دون أن نمر على معبر بينهما.
نحن لم نفقد الدولة ومؤسساتها فحسب، ولكننا فقدنا حتى اللغة، فقدناها على مرحلتين: الأولى فى ظل السلطة البطلمية التى فرضت لغتها اليونانية فى الحكم والإدارة وفى الثقافة والحياة اليومية فى المدن والأحياء المختلطة التى جمعت بين اليونانيين والمصريين واليهود. والمرحلة الأخيرة فى ظل الحكم العربى الذى انتشر معه الإسلام واختفت اللغة المصرية القبطية وحلت محلها لغة الفاتحين العرب.
من الطبيعى أن نبحث فى تلك العصور عن أدب مصرى مكتوب بأى لغة فلا نكاد نجد لأن اللغة المصرية فى تلك العصور فقدت مكانها فى حقل الإبداع وتحولت إلى لغة اتصال فحسب وظلت تتراجع وتنسحب حتى اختفت تماماً فى القرن الميلادى السادس عشر، ولأن اليونانية التى حلت محل المصرية فى الإدارة والثقافة كانت بالنسبة لعامة المصريين لغة أجنبية لا تستعمل إلا فى المدن والمستوطنات اليونانية وقد حلت العربية محل اليونانية والمصرية معاً، لكن العربية كانت فى حاجة إلى وقت حتى تتمصر وتصبح فى مصر سليقة وتستجيب للروح المصرية وتتعلم طرقهم فى الأداء، وهو ما لم يتحقق فى العصور الوسطى إلا فى أعمال قليلة لا تقارن بما حققته فى هذا العصر الحديث الذى امتلك فيه المصريون اللغة الفصحى وطوعوها لأفكارهم وأذواقهم وأضافوا لها ما لم تكن تعرفه من قبل.
لقد دخلت العربية مصر وليس فيها من فنون الأدب إلا الشعر، وها هى الآن شعر وقصة ورواية ومسرح.
ولقد تعرضت العربية للفساد فى مواطنها الأولى التى ازدهرت فيها، فى الجزيرة العربية وفى الشام وفى العراق، ودخلت هى والثقافة العربية كلها عصر التقليد والانحطاط الذى بقيت فيه أربعة قرون متواصلة ولم تخرج منه ولم تنهض من جديد إلا فى هذا العصر الحديث والفضل الأول للمصريين الذين نهضوا باللغة العربية وثقافتها وأخذوا مكانهم فى صدارتها حين اتصلوا بحضارة الغرب وتحرروا من تبعيتهم للأتراك العثمانيين واستعادوا دولتهم الوطنية واستعادوا معها قوتهم كلها الخشنة والناعمة.
فى العصور الوسطى كنا محرومين من التعبير عن أنفسنا بأى صورة من الصور، لم يكن من حقنا أن نشارك فى الحكم أو ندافع عن أنفسنا أو نحمل السلاح، ولم يكن من حقنا كذلك أن نخاطب السلطة بلغتنا أو نشارك بها فى النشاط الثقافى العام. وهكذا فقدنا قوتنا الناعمة حين فقدنا قوتنا الخشنة، وهذا موضوع نحتاج للنظر فيه وسبب آخر من الأسباب التى تفرض علينا أن نتحدث عن الثقافة وأن نفكر فى علاقتها بالدولة ونعيد النظر فى هذه العلاقة ونصححها لأنها لم تكن دائماً صحيحة لا فى الماضى ولا فى الحاضر. ومن هنا تعرضت الثقافة وتعرضت الدولة أيضاً لأخطار حقيقية تعانى منها الثقافة والدولة الآن.
إذا كانت الدولة هى الجسد الذى تتمثل فيه الأمة وتصبح حقيقة ظاهرة فالثقافة هى الروح التى لا تستطيع بدونها الأمة أن تصير كياناً حياً مفكراً فاعلاً يعرف ذاته ويفرض شخصيته.
وهل تستطيع الأمة أن تعرف نفسها وتتسمى باسمها دون نسب تحفظه وتاريخ تتذكره وتتوارثه وتحتفل به؟ وهل تستطيع أن ترعى مصالحها وتنمى قدراتها إلا بأدوات وخبرات ومهارات يهيئها لها العلم والبحث والتفكير والتجريب؟ وهل تدافع عن نفسها بغير جيش مدرب وبغير سلاح فعال؟
الثقافة هى هذه الروح وهذه المعارف وهذه الأدوات والخبرات التى تتحقق بها الأمة وتقوم بها الدولة وليست كما يتصور البعض نشاطاً كمالياً أو ترفاً عقلياً يستمتع به القادرون ويملأون فراغهم به فبوسعنا أن نستغنى عنه. لا، الثقافة لا تكون هكذا ولا تعامل على هذا النحو إلا فى مجتمع متخلف يرضى بالكفاف ولا يملك وقتاً للمراجعة أو فى مجتمع مقهور يستبد به حكامه ويملون عليه إرادتهم ويحرمونه من أن ينطق إلا ليهتف باسمهم ويسبح بحمدهم، فإن رفض أو اعترض اضطهدوه وسجنوه، وأقحموه فى مغامراتهم وحملوه تبعاتها، وصرخوا فى وجهه: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة! وهكذا فى عصور الانحطاط وفى حكومة الطغاة تتراجع الثقافة وينسحب العقل وتصبح الدولة جسدا بلا روح وتفقد مبرر وجودها وتعجز عن القيام بواجباتها حتى يجد الناس أنفسهم أمام خطر داهم أو خصم متقدم يملك ما لا يملكونه ويفرض عليهم أن يراجعوا أنفسهم ليعرفوا فيما تخلفوا هم وانهزموا، وكيف تقدم غيرهم وانتصر وهذا هو وضعنا الراهن.
لقد قام ضباط يوليو بحركتهم ليقوموا المعوج، كما قالوا، فى النظام الديمقراطى الذى ثاروا عليه فهدموه من أساسه وأقاموا مكانه نظامهم العسكرى الذى استولوا به على كل السلطات وانفردوا بها وأسكتوا المثقفين وزجوا بهم فى السجون والمعتقلات وحولوا الثقافة المصرية من قلعة للحكمة والمعرفة وحرية التفكير والتعبير إلى مؤسسة حكومية تأتمر بأمرهم حولوها من قوة ناعمة تمثل مصر وتنطق باسم المصريين وهى تخاطب العقول وتحيى النفوس إلى أجهزة للدعاية تتحدث باسمهم وتردد أكاذيبهم وتخسر بذلك نفسها وتتخلى عن أداء واجبها فى النقد والمراجعة وكشف الحقيقة والدفاع عن القيم وتمثيل سلطة الضمير التى تحتاج إليها القوة الخشنة، أى مؤسسات الدولة التى تصبح فى غياب الثقافة قوة غاشمة وآلة عمياء تبطش بغيرها وتسير على غير هدى وتفسد وتتآكل وتنهزم كما انهزمت فى حرب ١٩٦٧ وتفقد شرعيتها وتنهار فى النهاية كما انهارت أمام ثوار يناير وأمام ثوار يونيو.
هذا هو الدرس الذى يجب أن نتعلمه لنتجنب أخطاء الماضى ونحن فى الطريق لبناء المستقبل.
نقلا عن المصري اليوم