بقلم يوسف سيدهم
قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (487)
تطالعنا الأنباء بين الحين والآخر علي سيناريو متكرر يزف إلينا انطلاق حملة أمنية لتطهير منطقة وسط القاهرة من الباعة الجائلين والمواقف العشوائية لسيارات الميكروباس,
حيث يحدث استنفار أمني بقيادة أعلي الرتب المسئولة عن أمن العاصمة مصحوبة بكوادر من الضباط وجنود الشرطة والمعدات اللازمة لإزالة التعديات ومصادرة السلع وطرد الدخلاء الذين احتلوا الشوارع والأرصفة وأعاقوا حركة مرور السيارات والمشاة علي السواء...وفي كل مرة تبشرنا الأنباء بنجاح الحملة وعودة النظام والهدوء وانسياب المرور والشكل الحضاري لمنطقة وسط المدينة!!
عشنا ذلك المشهد وتابعنا تلك الحملات عشرات المرات, حتي بات الكثيرون يتندرون ويسخرون منها ويشبهونها بأفلام الرسوم المتحركة الشهيرة للقطتوم الذي يطارد الفأرجيري وفي كل مرة تحدث بينهما مطاردة حامية الوطيس ينجح فيها القط في إرهاب الفأر ويعتقد أنه أقصاه عن منطقته,لكن ما يلبث الفأر أن يعود أدراجه بعد هدوء الأوضاع وبعد أن يغط القط في سباق عميق!!..
هذا عينه مايحدث في وسط القاهرة ويعايشه سكانها والمترددون عليها سواء استفادوا منه كركاب ميكروباس أو كمستهلكين لبضاعة الأرصفة أو حتي كرجال شرطة يقومون بتنظيم المرور,فقد أصبحت هذه التجاوزات والمخالفات والصيحات المدوية التي لاتنقطع جزءا من واقعهم اليومي يعيشون به ومعه ولايتحركون لتغييره إلي أن تنطلق حملة أمنية أخري تمد الإعلام بمادة إخبارية عن همة الدولة وصحوة القانون!!!
من منكم يتردد بشكل منتظم علي وسط القاهرة..شوارعها وميادينها وأرصفتها يعرف جيدا المشاهد التي أتحدث عنها....يعرف الميادين والمواقف التي تعج بسيارات الميكروباس والفوضي المرورية التي تزخر بها والصياح الهستيري المتواصل للمناداة علي الركاب ووجهات ومسارات السيارات وعشوائية الحركة والوقوف وعرقلة انسياب المرور ولا يخلو الأمر من احتدام المعارك بين المواطنين والسائقين والأخطر ما قد ينشب منها بين السائقين والبلطجية الذين ينصبون أنفسهم أباطرة متحكمين في الموقف ومبتزين للإتاوات من السائقين المترددين عليه!!
أيضا من منكم لم يختبر بنفسه محاولة السير علي أرصفة وسط القاهرة؟...إنني أتحدث عن كارثة تمثل قنبلة موقوتة متروكة تستفحل ولا يدرك مدي خطورتها أحد لأن الكل تبلد حسه إزاءها بعد أن باتت جزءا ثابتا من الواقع اليومي للمنطقة...فمنذ الصباح الباكر تعترض المارة علي الأرصفة تكوينات قبيحة من البضائع المغطاة بالقماش والمربوطة بالحبال هي نتاج ماتركه الباعة الجائلون في الساعات الأولي من الفجر عندما أنهوا نشاطهم التجاري في اليوم السابق...
ثم مع مضي ساعات النهار واقتراب الظهيرة يعاود أولئك الباعة الظهور لفك ماربطوه وكشف بضاعتهم ليبدأوا يوم عملهم ,وهنا تزداد مساحة احتلالهم للأرصفة لامتداد مساحة عرض البضائع حتي تصل في كثير من الحالات إلي الامتداد أسفل الرصيف في نهر الشارع حيث يتم نشر العلاقات الحاملة لكافة أنواع الملابس وترك مالايزيد علي حارتين-هي في الواقع نصف عرض نهر الطريق-لحركة السيارات...
وتكون النتيجة أن المشاة إما يقنعون بشق طريقهم علي الأرصفة في مناورات مضنية بين ما يعترضهم علي الأرصفة أو يغامرون بالنزول إلي نهر الطريق لتفادي ذلك والدخول في مناورات بين السيارات(!!)...وطبعا لايجرؤ أحد علي الاحتجاج أو الشكوي,لأن صوته سوف يضيع وسط مهرجانات الصياح لترويج البضائع أو سينال عقابه قاسيا من أحد الباعة الجائلين لأنه تجرأ وتحدي مصدر رزقه أو آثر الصمت والسلامة...ولم لا؟...أليست المنطقة تعج برجال الشرطة المسالمين الذين لايفعلون شيئا؟!!
أما إذا ساقتك الأقدار لارتياد هذه المنطقة بعد الظهر عقب انصراف مؤسسات الأعمال وإغلاق البنوك فسوف تعتقد لوهلة أنها تحولت إلي منطقة مشاة وأن بعض السيارات لاتعرف ذلك وتخوض فيها عن طريق الخطأ والغفلة!!...فبعد الظهر يتوحش الباعة الجائلون ويمتد استيلاؤهم علي نهر الطريق تاركين مالا يتجاوز حارة واحدة للسيارات...
ولا تسأل عن أصحاب المحلات التجارية الشرعية الموجودة علي جانبي هذه الشوارع أسفل العقارات بها أو عما هم فاعلون إزاء ذلك الاجتياح البربري لتجارة الأرصفة أمام محلاتهم أو عن شعورهم باغتصاب حقهم والتعدي علي تجاراتهم وأرزاقهم,فهم منذ زمن آثروا السكوت والسلامة وباتوا فقط يدعون ألا تنفجر معركة بين الباعة الجائلين حتي لا يصيب محلاتهم الدمار من جراء الضرب بكل شئ وبأي شئ والذي يصل في بعض الأحيان إلي تطاير الرصاص من الأسلحة التي يحملونها...ناهيك عن الإرهاب والرعب الذي يصيب المارة أنفسهم.
هذا العبث والانفلات ناتج عن استمرار التعامل مع إمبراطوريات الميكروباس والباعة الجائلين بالفكر الأمني البوليسي العقابي الذي يستدعي سيناريوتوم وجيري...وياليته يكتمل بعد كل حملة بالتواجد اليقظ الذي يحول دون عودة الأمور إلي ما كانت عليه وكأنك يأبو زيد ماغزيت!!...والحقيقة أننا لن نهنأ بعودة الأمن والهدوء والاستقرار والشكل الحضاري لوسط القاهرة إلا بالتخطيط السليم العلمي وبالتعامل مع مشكلتي الميكروباس والباعة الجائلين علي أنها تتصل بشريحة كبيرة من طالبي الرزق الذين لا يرغبون بالضرورة في مخالفة القانون وأنه من الأفضل تسكينهم في أماكن ومراكز مستقرة يمارسون نشاطهم من خلالها وتتوفر فيها مقومات الارتباط بمسارات حركة المواطنين حتي يستمروا ويستقروا فيها ولايعودوا يهجرونها إلي الأرصفة....
بدون أن نواجه هذا الأمر بشجاعة وواقعية لن نستطيع أن نقضي علي إمبراطورية الميكروباس أو الباعة الجائلين وستستمر منطقة وسط القاهرة مرتعا للفوضي والمجرمين!!