تحتفل مِصر اليوم بدخول العائلة المقدسة إليها لتتبارك أرضها، وليُعد مجىء السيد المسيح وأمه السيدة العذراء، يصحَبهما يوسُف النجار وسالومى، من أهم الأحداث التى جرت على أرض مِصرنا الغالية فى تاريخها الطويل. وقد ذكر الكتاب المقدس نبوات عن هذه الرحلة، فتنبأ إشَعْياء النبى قائلاً: «.. هو ذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مِصر، فترتجف أوثان مِصر من وجهه ويذوب قلب مِصر داخلها» (إش١:١٩)، وذكر هوشع النبى: «من مِصر دعوتُ ابنى» (هو١:١١). وقد حدد إشَعْياء النبى أن فى وسَط مِصر ستكون كنيسة: «.. يكون مذبح للرب فى وسَط أرض مِصر، وعمود للرب عند تُخْمها. فيكون علامة وشهادة لرب الجنود فى أرض مِصر» (إش١٩:١٩-٢٠). وقد تحققت هذه النبوءة فى كنيسة السيدة العذراء مريم الأثرية بدير المحرق فى أسيوط، وهذا المكان عاشت فيه العائلة المقدسة أكثر من ستة أشهر.
رحلة العائلة المقدسة
بدأت رحلة العائلة المقدسة حين ظهر ملاك إلى يوسُف النجار فى حُلم بعد زيارة المجوس للعائلة، وحذّره من الملك هِيرودُس الذى يسعى لقتل السيد المسيح قائلاً: «قُم وخُذ الصبى وأمه واهرب إلى مِصر وكُن هناك حتى أقول لك. لأن هِيرودُس مزمِع أن يطلب الصبى ليهلكه (مت١٣:٢)، فأسرع يوسُِف النجار وأخذ الصبى وأمه هارباً إلى مِصر، وكان ذلك ليلاً.
ترحال وأحداث
تذكُر بعض المصادر التاريخية أن العائلة المقدسة قضت قرابة الثلاث سنوات ونصف السنة فى مِصر. فرحلت العائلة المقدسة من بيت لحم بفلسطين كأمر الملاك إلى غزة حتى محمية الزرانيق (الفلوسيات) غرب العريش بـسبعة وثلاثين كيلومتراً، لتدخل أرض مِصر عن طريق سيناء من جهة الشمال من الفَرَما التى تقع بين مدينتى العريش وبورسعيد. ثم وصلت العائلة المقدسة إلى مدينة تل بسطا (بسطه) قرب مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية، حيث أنبع السيد المسيح عين ماء، وتهاوت الأوثان على الأرض ما أن دخلها، مما سبب الذعر والإزعاج إلى أهل المدينة فأساءوا معاملة العائلة المقدسة لتترك لهم المدينة وتتوجه نحو الجنوب.
بعد مغادرة تل بسطا والتحرك جنوباً، وصلت العائلة المقدسة بلدة مسطرد (المَحَمَّة) التى أُطلق عليها هذا الاسم، لأن السيدة العذراء أحمَّت السيد المسيح وغسلت ملابسه فيها. وقد مرت العائلة مرة أخرى بهذه المدينة فى طريق العودة، وأيضاً أنبع السيد المسيح فيها نبع ماء لايزال إلى اليوم.
ثم تحركت العائلة المقدسة من مسطرد شمالاً نحو الشرق إلى مدينة بلبيس فيلبس بمركز بلبيس بمحافظة الشرقية، واستظلت هناك عند شجرة عُرفت باسم «شجرة مريم». ثم اتجهت العائلة المقدسة من بلبيس شمالاً لتمر بالزقازيق وتواصل رحلتها إلى منية سمنود (منية جناح)، وتمر ببلدة دقادوس حيث شرِبت من إحدى آبارها.
ويتبارك نيل مِصر من العائلة المقدسة فى أثناء عبورها إياه من منية سمنود إلى مدينة سمنود (جمنوتى- ذب نثر) داخل الدلتا، وهناك استقبلها شعب البلدة استقبالاً حافلاً، حتى إن السيد المسيح بارك هذا الشعب كما بارك بئر ماء بالمدينة، ويقال إن السيدة العذراء فى أثناء وجودها هناك عجنت فى ماجور كبير بالمدينة مصنوع من الجرانيت موجود حتى الآن.
وترتحل العائلة المقدسة من مدينة سمنود إلى منطقة البرلس لتصل إلى مدينة سخا الموجودة حالياً فى محافظة كفر الشيخ، وذُكر أن قَدَم السيد المسيح ظهرت على أحد الأحجار فيها، وقد اختفى هذا الحجر وتم اكتشافه عام ١٩٨٤م. وفى أثناء هذه الانتقالات من سمنود إلى سخا مرت العائلة المقدسة بكثير من البلاد التابعة لمحافظتى الغربية وكفر الشيخ، ويقول البعض إنها عبرت فى طريقها برارى بلقاس.
ومن سخا عبرت العائلة المقدسة مرة أخرى نهر النيل (فرع رشيد) إلى غرب الدلتا لتتجه ناحية الجنوب إلى وادى النطرون، يُطلق عليه «الإسقيط»، لتتبارك برِّية الإسقيط من العائلة المقدسة. وفى الطريق إلى هناك، مرت بنبع الحمرا حيث أنبع السيد المسيح نبع ماء عذب أٌطلق عليه اسم «بئر مريم» الذى يقع وسْط البحيرات الممتلئة بمِلح النطرون.
ثم تتجه العائلة المقدسة من وادى النطرون جنوباً إلى مدينة القاهرة، ثم عبرت نهر النيل إلى الناحية الشرقية متجهة ناحية المطرية وعين شمس. وفى تلك الأثناء، كان يسكن منطقة عين شمس عدد كبير من اليهود، كان لهم معبد يسمى بمعبد «أونياس». وفى المطرية، استظلت العائلة المقدسة تحت شجرة لتترك لنا أثراً عظيماً هو الشجرة التى تُعرف باسم «شجرة مريم»، وأيضاً أنبع السيد المسيح عين ماء شرب منه وباركه. ويذكر المؤرخون أن السيدة العذراء غسلت فى تلك البئر ملابس السيد المسيح، ثم صبت الماء على الأرض فنبت فيها البَلسم أو البَلسان، وهو نبات عطرى.
ثم تحركت العائلة المقدسة من المطرية وعين شمس وسارت إلى مِصر القديمة، وفى الطريق استراحت فترة بمنطقة الزيتون. وفى الطريق أيضاً، مرت بمنطقة وسَط البلد حيث كنيسة السيدة العذراء الأثرية بحارة زويلة، وكذٰلك العِزباوية بمنطقة «كلوت بِك». وما أن وصلت العائلة إلى مصر القديمة حتى تحطمت الأوثان فيها، وهو ما أثار والى الفسطاط، وسعى إلى قتل السيد المسيح، فلم تستطِع العائلة البقاء فيها طويلاً وسارعت بالتحرك جنوباً لتصل إلى منطقة المعادى (منف عاصمة مِصر القديمة). ومن أهم الآثار التى تركتها العائلة المقدسة فى مِصر القديمة هو الكهف أو المغارة التى لجأت إليها فى كنيسة أبى سِرجة.
ومن مصر القديمة أقلعت العائلة المقدسة فى مركب شراعى بالنيل جنوباً تجاه الصعيد، وذلك من المكان الذى أُقيمت عليه الآن كنيسة السيدة العذراء، ولايزال حتى الآن السُّلَّم الحجرى الذى نزلت عليه العائلة المقدسة إلى ضفة النيل. وفى طريقها مرت بقرية أشنين النصارى متجهة إلى قرية دير الجرنوس بمركز مغاغة، حيث بئر عميقة يُذكر أن العائلة المقدسة شربت منها. ومرت أيضاً ببقعة تُسمى «بيت يسوع» شرقى البهنسا مكانها الآن قرية صندفا (بنى مزار).
وارتحلت العائلة المقدسة من بلدة البهنسا ناحية الجنوب حتى بلدة سمالوط، ثم عبرت النيل ناحية الشرق، حيث دير السيدة العذراء بجبل الطِير شرق سمالوط. ويُعرف الجبل باسم «جبل الطِير» لأن ألوفاً من طائر البوقيرس تجتمع فيه، وأيضاً عُرف باسم «جبل الكف» بسبب حادثة تعرضت لها العائلة فى رحلتها، فقد ذكر التقليد القبطى أن فى أثناء عبور العائلة نهر النيل ومرورها بجوار الجبل كادت صخرة كبيرة أن تسقط عليها، فمد السيد المسيح يده ومنعها من السقوط وانطبعت كفه على الصخرة.
ومن جبل الطير إلى الشيخ عبادة (بير السحابةـ أنْصِنا) حيث أنبع السيد المسيح بئر ماء عذب. ثم مرت العائلة المقدسة بقرية بنى حسن جنوباً، وعبرت نهر النيل إلى الروضة غرباً لتصل إلى الأشمونين، وذكرت مصادر عديدة أن فى هذه البلدة: حدث كثير من العجائب، وسقطت أوثانها، وقد باركتها العائلة المقدسة. بعدها اتجهت العائلة إلى ديروط أم نخلة فى الجنوب، حيث أنبع السيد المسيح بئر ماء عذب. ثم سارت العائلة إلى ملوى (دير الملاك)، وعبرت النيل شرقاً لتصل إلى تل العمارنة، وفى الطريق استراحت العائلة على كوم بدير أبوحنس ويُطلق عليه «كوم ماريا»، ثم أكملت المسير. ثم أبحرت العائلة المقدسة من تل العمارنة متجهة جنوباً ناحية ديروط الشريف، ثم إلى قرية قُسقام (قوستـ قوصيا)، وهناك حدث أن الصنم الذى كان يعبده أهل المدينة تهاوى وتحطم، فطرد أهل البلد العائلة المقدسة، ولكنّ المدينة صارت خراباً فيما بعد. وعلى النقيض من هذا، اتجهت العائلة إلى بلدة مِير (ميره) غرب القوصية، حيث أكرمها أهلها وباركهم السيد المسيح وأمه السيدة العذراء.
تحركت العائلة من مِير إلى جبل قُسقام حيث الآن «دير المُحَرَّق»، ومكثت هناك ستة أشهر وعشَرة أيام فى إحدى المغارات التى أصبحت الآن هيكل كنيسة السيدة العذراء الأثرية بالدير. واستقرت العائلة المقدسة هناك حتى ظهر الملاك ليوسُِف مرة أخرى، قائلاً: «قُم خُذ الصبى وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل، لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبى» (مت٢٠:٢)، لتعود العائلة المقدسة إلى أرض فلسطين.
وفى طريق العودة، سلكت العائلة المقدسة طريقاً آخر انحرف جنوباً حتى جبل أسيوط الغربى وباركته، ومنه إلى مِصر القديمة، ثم المطرية، ثم المَحَمَّة (مسطرد)، ومنها إلى سيناء ففلسطين حيث عادت إلى قرية الناصرة بالجليل.
إن مِصر تُعد البلد الوحيد الذى زارته العائلة المقدسة وعاشت فيه، لتنال بركة عظيمة تستمر على مدى الزمان، ولتُحفظ فى تاريخ أمتها العريقة بأحرف من نور. فمِصر بلد زاره السيد المسيح وباركه بركة خاصة. وعن مِصر الحلوة الحديث لا ينتهى...!
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى
www.twitter.com/anba_ermia
نقلا عن المصرى اليوم