هذا البلد يحتاج أن يؤهل نفسه لحرب صعبة ومكلفة قد تطول مع الإرهاب.
لا دحر تنظيماته مسألة هينة ولا حسم الحرب على مرمى البصر.
فى مثل هذا النوع من الحروب فإن الضربات المتبادلة من طبيعتها، وأى تصور آخر هو الوهم مجسدا.
بمعنى آخر فإن استهداف منشآت عسكرية وأمنية فى شمال سيناء بالسيارات المفخخة وقذائف الهاون وسقوط أعداد كبيرة من الشهداء والمصابين، أكبر مما سقط فى أية عملية سابقة، لا يصح أن يكون بذاته مفاجأة.
لم يكن مستبعدا على أى نحو ولا فى أى حساب مثل هذا الهجوم بغض النظر عن حجمه ونوعيته، فالتوقيت يوحى باحتمالاته.
على أبواب العام الخامس لثورة «يناير» وصلت استهدافات العبوات الناسفة لمحطات القطارات وأبراج الكهرباء والمنشآت العامة إلى ذروة جديدة، وكانت تلك إشارة أولى على مواجهات أعنف مقبلة.
وجرت مواجهات بالسلاح فى «المطرية» مع قوات الأمن فى محاولة لنزع الحى القاهرى الشعبى عن سيطرة الدولة على النحو الذى جرى سابقا فى حى آخر مماثل بمحافظة الجيزة «كرداسة»، وكانت تلك إشارة ثانية على نوعية المواجهات الجديدة.
لم يكن العنف مجانيا بقدر ما كان مخططا لخلخلة الثقة العامة فى قدرة الدولة على حفظ أمنها.
فهناك من تابع الاحتقانات المصرية ورصد نزيف الشرعية وتعالى صوت الأنين العام وقرر أن هذه فرصته.
المسئولية تتحملها دولة لا تدرك الحقائق حولها والتحديات التى تحاصرها وترتكب أخطاء إملائية فى السياسة والأمن.
فى عمليات سيناء لاحت وسط الدم الثغرات السياسية قبل الأمنية، فإذا كان هناك من سعى للضرب على العصب الحى فإنه راهن على الخلخلة الجارية فى البيئة العامة المصرية.
بدت العمليات إلى حد كبير منسقة على نحو يؤكد أنها خضعت للترتيب والتخطيط قبل الضرب والتنفيذ.
أوحى السياق العام قبلها وبعدها أنها خضعت لحساب سياسى.
فى الوقت نفسه لم تتوفر لدى السلطات المصرية أية معلومات أساسية مسبقة، وهذا أحد أوجه القصور والخلل، كما أنها لم تأخذ أية إجراءات استثنائية لتوقى أية أخطار محتملة بينما لم يكن بوسع أحد استبعاد أن تجرى فى هذا اليوم عملية إرهابية جديدة.
لم تكن هناك مفاجأة فى التوقيت بقدر ما كانت فى التطور النوعى الجديد.
وهنا يطرح السؤال نفسه: كيف تسنى لجماعات تكفيرية تخضع للملاحقة العسكرية والأمنية أن تطور عملياتها نوعيا من وقت لآخر؟
الافتراض الرئيسى أن الحدود مازالت فى حالة انكشاف، وأن هناك موارد جديدة من السلاح والمقاتلين تتدفق على سيناء تعوض ما سقط فى المواجهات، وأن بعض هؤلاء المقاتلين على درجة عالية من التدريب والقدرة القتالية.
عملية العريش الأخيرة تثبت دقة التصويب بالهاونات والتخطيط للعملية كلها.
وهذا عمل محترفين لا هواة من الذين يضعون العبوات الناسفة فى الطرقات وبعضها تنفجر فى حامليها.
على نحو شبه مؤكد فإن هناك تزاوجا لافتا بين ما هو محترف وما هو هاو.
فلا يمكن أن تكون مصادفة أن تتزامن مع انفجارات شمال سيناء عمليات أخرى أقل خطورة بما لا يقاس فى بورسعيد والسويس حاولت إرباك القوات العسكرية والأمنية على الضفة الأخرى من القناة فى اللحظة ذاتها.
وهذا الاستنتاج معناه ارتفاع منسوب التنسيق بين الجماعات التكفيرية فى سيناء وجماعات أخرى فى الداخل.
ورغم أية تباينات فإن الطرفين يستهدفان خلخلة الدولة وتقويض الثقة فيها وفى مستقبلها.
طرف يطلب «الخلافة» على نهج «داعش» وطرف يطلب العودة إلى السلطة بقوة السلاح.
فى الطلبين يتوارى أى كلام عن الديمقراطية أو احترام أية قواعد لحقوق الإنسان، وأولها الحق فى الحياة.
بعبارة صريحة فمن لا يواجه الإرهاب بوضوح لا يحق له الحديث عن الديمقراطية أو انتقاد الأخطاء والخطايا التى ترتكبها السلطات الحالية.
القيم الأخلاقية هى التى تسوغ وحدها طلب الديمقراطية ورفض أية انتهاكات لحقوق الإنسان فى مصر.
على عكس ما يتصور كثيرون فإن هذه القيم هى التى تنتصر فى النهاية.
أية استراتيجية متماسكة لمكافحة الإرهاب فى حرب قد تطول تحتاج إلى غطاء أخلاقى يسند معاركها، فلا أحد يضحى دون أن يكون مقتنعا عن يقين بعدالة قضيته وأن فى انتصارها معنى الحياة.
ولا يمكن الادعاء، رغم التضحيات الهائلة لضباط وجنود الجيش والأمن، بأن الروح العامة مرتفعة والثقة فى المستقبل مؤكدة.
الخلل السياسى فادح بصورة منذرة، الماضى يحاول أن يعود بينما النظام الجديد لا يحسم أمر خياراته رغم نفيه المتكرر العودة للوراء، والأداء الإعلامى بعضه يصرخ فى هستيريا ويخون باستهتار كعبء لا يحتمل، بينما لا أحد يحاسب كل هذا الانفلات أو يوقف كل تلك الحماقة.
بعض الحمقى يظنون أنهم يحاربون الإرهاب وهم يضخون الدماء فى شرايينه المتيبسة ويظنون أنهم يحاربونه، ويفسحون الطريق أمامه للتمركز فى مناطق جديدة واكتساب غطاء شعبى يفتقده فى المناطق الأكثر فقرا.
عندما لا تحاسب الانفلات الأخلاقى والسياسى فإن أحدا لن يعفيك من مسئوليته، هذه قاعدة تسرى على الدول كما تسرى على الأفراد.
الكلام المنفلت كالرصاص الطائش يضرب فى الروح المعنوية للطبقة الوسطى المتعلمة وقطاعات أخرى فى المجتمع، ويفضى إلى تفسخ التماسك الوطنى الضرورى فى حرب ضارية، فلا أحد مستعد أن يساند عن اقتناع دولة تستهتر بمواطنيها ولديه شكوكه أنها تحاول توظيف الحرب على الإرهاب لعودة الدولة البوليسية واستنساخ السياسات القديمة التى ثار عليها شعبها مرتين.
هنا مكمن الخطر الأكبر على الدولة ومصيرها وعلى المستقبل كله.
فى قضية «شيماء الصباغ» مثال صارخ على انتهاك أية قيمة أخلاقية، كأن الرصاصة التى أطلقت عليها مهدت لدانات العريش، والصمت على القاتل أو الذى أمره بالقتل هو تواطؤ على الدم العزيز الذى سال بغزارة فى العملية الإرهابية الأخيرة.. ومثال آخر على حمق التصرف بمنع تلقى العزاء فى الشهيدة الشابة، التى باتت رمزا لمعنى أكثر من اسم لإنسان، بدار مناسبات «عمر مكرم».
المنع بذاته فضيحة أمام المجتمع وأمام العالم.
أريد أن أقول بوضوح إن من أسباب تصاعد التحدى الإرهابى، رغم أية جهود فى حصاره وتطويقه، يرجع إلى مثل هذه السياسات من تجفيف المجال العام وتدخل الأمن فى الشأن السياسى واتباع الخيارات الاقتصادية ذاتها التى أفضت إلى الثورة.
بقدر ما يبدو المجتمع شبه منقسم وشبه يائس فإن الإرهاب يطرح نفسه من ثغرات التراجع الفادح فى مستوى الرهانات الكبرى.
وبقدر الخطر فإن الدول تنهض للمواجهة، تدرك أين مواطن القوة وتحفظها بكامل إرادتها وتتعرف على الثغرات وتسدها بلا تردد.
إذا كان هناك من يتصور أن الحرب مع الإرهاب نزهة فهو ذاهب إلى مستقبل مرعب.
وإذا كان هناك من يستهين بسلامة الظهير الشعبى فهو مغامر بمستقبل هذا البلد.
لا بديل آخر غير التقدم إلى المستقبل بثقة من يعرف طريقه ومستعد أن يتحمل مخاطره حتى لا يمر الإرهابيون من هنا.
بقلا عن الشروق
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع