بقلم: باسل قس نصر الله
جاء الى مكتبي، صديق دراسةٍ يعيش خارج سورية منذ مدة طويلة، وقد مضت فترة طويلة تجاوزت السنوات العشرة لم اره فيها، وخلال دخوله رأى الصور المعلقة على حيطان المكتب وكلها صور مناسبات جمعتني في الغالب - من خلال سماحة الشيخ د. احمد بدر الدين حسون مفتي سورية - مع شخصيات دينية كبيرة على مستوى العالم ، ثم انتقل الى مكتبتي الشخصية ذات الاربعة آلاف كتاب تقريباً والمتعددة الاتجاهات، وجلسنا نتبادل الذكريات الجميلة خلال مرحلة الجامعة، وخلال الحديث نظر الى مخططات هندسية موجودة على مكتبي وسألني كيف أوفق بين عملي الهندسي وعملي كمستشار لمفتي سورية.
ضحكت من السؤال واجبته أن الهندسة هي التي تعيلني وانا بدوري أتكفل بما يترتب على دوري كمستشار لأنني أعمل بدون أجر، إنما بحب كبير. استغرب صديقي ما قلته وقال لي \"أَعِدْ، أَعِدْ، هل تريد أن تقول لي أنك لا تتلقى عائد مادي عن عملك\" قلت نعم . يا صديقي مثلي كمثل الكثيرين الذين يعملون دون مقابل لخدمة بلدهم، فالجندي لا يدافع عن البلاد لأنه يتلقى دخلاً معيناً، ولا أعتقد أن هناك مردود ما يجعل هذا الجندي مستعداً أن يقدم حياته لوطنه لولا عشقه لهذا الوطن. قد يكون عدم وجود تغطية مالية هي ما تجعلني لا استطيع ان اكون مع المفتي العام في غالبية أسفاره، لأنه هو من سيتحمل تغطية نفقات وجودي معه خلال السفر.
ولا شك أن ذلك محرج لي، بغض النظر عما يعنيه وجودي من اشارات ايجابية، ومن امكانية نسج علاقات مفيدة لبلدي من خلال ديبلوماسية دينية تكون رديفة للديبلوماسية السورية وتسير ضمن مناحيها. وقرأ صديقي خلال اقترابه من مكتبي أن المخططات الهندسية تخص بناء جامع، قلت له \" لا تعتقد أن وجودي قرب المفتي يمنحني بعض الدراسات الهندسية لدور العبادة، لأن دور العبادة الاسلامية والمسيحية واليهودية ليس لها اتعاب لأنها معفاة ويتقدم المهندسون بالدراسة الكاملة دون اتعاب، كما أنها معفاة من اجور الترخيص في البلديات.\" منذ مدة طلب مني المفتي العام (بصفتي مهندساً) متابعة ترخيص هدم واعادة بناء جامع الفرقان بحلب (الموجود حالياً منذ حوالي اربعين سنة)، واعطاني المخططات بعد أن تابعها لمدة ثلاث سنوات، اخبرته مساء أن الارض المبني عليها الجامع ما زالت ذات صفة سكنية ويجب تحويلها الى ارض لبناء مسجد وبعدها نقوم بمتابعة تدقيق المخططات ثم الهدم واعادة البناء.
وبدأت بمتابعة المطلوب وساعدني (مشكورين) اصدقاء في مواقع المسؤولية، وتابعت بزخم قوي الاجراءات المطلوبة وسط استغراب العدد القليل من الناس ان يتابع مسيحي ترخيص مسجد، وأن يتابع مع المهندسين الدارسين التعديلات الضرورية ومع مجلس مدينة حلب تحويل الأرض ومع مديرية الاوقاف الاوراق المطلوبة، الخ الخ ...... نعم، قد يكون مستغرباً لدى كل العالم أن يقوم مسيحي بترخيص بناء مسجد، لكنْ، عندما يكون اخي المسلم في سورية يقوم بالمقابل - من خلال عمله – بتخصيص ارض لبناء كنيسة، خلال عمله في مخطط منطقة عمرانية، أرى أن ما اقوم به هو طبيعي جداً تحكمه ظروف تخصصية، عملياتية بحتة. إذا كنتُ يا صديقي مستشارٌ لمفتي الجمهورية وأنا مسيحي الديانة، فيجب أن تعرف أن الحظ شاء أن اكون أنا، لأنني واثق أن كل المسيحيين بامكانهم أن يكونوا مستشارين لسماحة المفتي، كما أن كل المسلمين هم من خلال أعمالهم مستشارين لرجال الدين المسيحي.
هذه هي سورية التي أدافع عنها، وأنا واثق بأن اثنين وعشرين مليون مواطن سوري، سيدافعون عن هكذا نهج. عندما قدم روان ويليامز (رئيس اساقفة كنتربري) الى سورية منذ أكثر من عامين، سألني \"هل أكيد أنك مسيحي؟\" وهذا السؤال تداوله الكثير، من نواب ووزراء اوروبيين، الى بطاركة وكرادلة ورؤساء سابقين او حاليين. نعم، افتخر بأنني سوري وتحت ظلال رئيسي أولا، وأفتخر بأنني مسيحي في ظلال إسلام لا يقبل مني إلا احترام الوطن والانسان، وأنني مستشارُ لمفتٍ لم يفرق بين انسان وانسان، ولسانه يردد \"إن أقربكم عند الله أتقاكم\" (ص) اللهم اشهد اني بلغت.