محمد حسين يونس
23 يوليو 1952 .. بعد سماع بيان الضباط الأحرار .. قابلهم المصرييون بحب .. و تأييد .. و خرجوا في مظاهرات دعم .. حتي أن من يراها.. يتصور أنها كانت ثورة و ليست (حركة مباركة كما سموها ) أو إنقلاب عسكرى كما قيل في الخارج .
لقد ضاق الناس ذرعا بالإحتلال و أعوانه من الباشوات .. و السراى ..و الأحزاب .. و كانوا يتوقون للتغيير .. و الخروج من المياة الأسنة التي عاشوا فيها لسبعين سنة
عندما انقلب العسكر كان الشارع المصرى يغلي فمليشيات الاخوان قامت باغتيالات و تفجيرات انتهت الي حرق القاهرة
و الجيش الانجليزى يدمر مراكز البوليس التي لم يكن يملك جنودها ذخيرة او حتي بنادق مناسبه
و الملك يغير الحكومات بسرعه غير معهودة و في ازمان متقاربة ..
و الجيش لازال يداوى جروح هزيمة قاسية في فلسطين و تنتشر الاشاعات ان السبب هو ذخيرة فاسدة وردتها حاشية مولانا
عندما انقلب العسكر كان الرجال يضعون الطربوش علي رؤوسهم و يرتدون الاسموكينج و الفراك في البرلمان والمناسابات و كانت سيدات الطبقة المتوسطه في اغلبهن سافرات و يرتدين ملابس سهرة قادمة من باريس في حفلات ام كلثوم و كان الجنيه المصرى محترما و يزيد قليلا عن الاسترليني و يكاد يوازى الجنيه الذهب .. و كانت هناك عمله اسمها تعريفه اى خمسة مليمات اخذها كل صباح كمصروف يد لي و انا ذاهب الي مدرسة فاروق الاول الثانوية
مدرستي كان بها ملعب كرة قدم و حمام سباحة و عشرات من ملاعب التنس و الفولي و الباسكيت و صالة للشيش و صالة اسكواتش و مطعم نتناول فيه وجبة الغذاء ارز و خضروات و لحم و فاكهه و نتعلم كيف نستخدم ادوات المائدة و نوزع بين الزملاء الوجبة بالعدل .. لقد كانت مدرسه جميله رغم ان مصاريفها جنيهات محدودة و يمكن للناظر احمد بك ذكي ان يعفي المجتهد من المصاريف.
في يوليو 52 كانت ليلي مراد ( اليهوديه )نجمة الشباك و كان عبد الوهاب يغني أجمل اغانيه عن الفنون و حاميها الملك المعظم و كان سلامة موسي و خالد محمد خالد و لويس عوض وطه حسين ، و توفيق الحكيم و عبد الرحمن بدوى و نجيب محفوظ علامات في الادب والفلسفة
و كانت روز اليوسف و اخوان تكلا و اصحاب دار الهلال ابناء جورج زيدان كلهم من الشام و هاجروا الي مصر مع بشارة وكيم و نجيب الريحاني و فريد الاطرش و بيرم التونسي يشكلون ضمير مصر و قلبها الذى يشع تحضرا و ارتقاء و معاصرة .
و كان علي الجانب الاخر مرشد الاخوان المستشار الهضيبي يعلن انهاء التنظيم الذى شارك في اغتيال احمد ماهر و النقراشي و ينشيء سرا تنظيما اخر يهدد به رجال الانقلاب ان لم يسلموا له الراية.
علاقة الاخوان و الشيوعيون و المخابرات الامريكيه و السفير البريطاني بالضباط الذين انقلبوا علي الشرعيه لازالت غامضة
و لكن المؤكد أن شباب الضباط فوجئوا بتخلي الملك عن الحكم و استسلام الوفد و عدم تحرك الانجليز فأصبحوا في مواجهه تجربة لم يعدوا انفسهم لها ..
لقد كان عليهم أن يحكموا مصر المستعمرة عسكريا.. التي يسيطرعلي ارضها نصف بالمائة من كبار الملاك وعلي صناعاتها و مرافقها وقناة سويسها و علي بنوكها و اقتصادها و بورصتها و سوق قطنها اجانب.. فترى ماذا يفعلون!! ..
كان امامهم ثلاثة نماذج .. النموذج الستاليني الذى دحر النازى و كان السبب في هزيمتهم
و نموذج هتلر القومي الفاشيستي الذى صعد بالمانيا في سنوات محدودة الي قمة العالم ..
و المعسكر الليبرالي الذى تبشر به الولايات المتحدة رافعة حقوق الانسان و المواثيق الدولية .
فاختار العسكر الطريق الثالث و في اول احتفال باعياد الثورة في نادي الجلاء بالزمالك .. اغلق عبد الناصر الميكرفونات و ابعد الصحفيين و اسر للضباط ان امريكا وافقت علي تزويدهم بعدد من الدبابات .
و لكن لاننا لم نكن في يوم من يصنع سياسته و لاننا تخلفنا عن ركب الحضارة و لاننا كنا نعيش في عالم يحكمه غيرنا .. لم نستكمل ابدا مسيرة الديموقراطيه و الحريه و اسرعنا نستنسخ نظامي هتلر و موسيليني.. لنصعد و نهبط كما صعدا و هبطا
عندما انقلب العسكر كان عمرى اثني عشر سنة ..و كنت متحمسا للثوار و كنت ابنا من ابناء يوليو .. و عشت مراحل الثورة المختلفة .. من المرحلة الناصرية الشمولية حتي المرحلة المباركية الفوضوية .. و الفترة الانتقالية التي أنهي فيها السادات علي الناصرية و أسس للكومبرادورية ..
يناير 2011 جموع الشعب تطالب باسقاط النظام معارك شوارع مع الامن المركزى يغتال فيها ما يقارب الالف شاب و متظاهر.. المصريون يكتشفون المستنقع الذى يعيشون فيه وعصابات البلطجة و الفساد المستشرى فيرتفع سقف المطالب ليسقط راس النظام وعائلته ..
السلفيون و الاخوان يدينون الخروج علي طاعة الحاكم .. (الحاكم هنا) امن الدولة و معتقلاتها التي تسيرهم طبقا لرغبتها..
راس النظام يتنحي و يترك ادارة شئون البلد للجيش ..الاخوان يغيرون جلدهم و السلفيون يعلو صوتهم مطالبين برجوع الرق و تفعيل شرائع بداية الاسلام الذى تغيرت مفاهيمه عبر الف سنة..
الاسلامجية كأنهم خارجون من كهف الزمن يتصرفون كما لو كان لم يتغير الوضع عن ايام صحابة رسول الله..
الجيش لا يوضح ولا يحدد إنحيازة للقوى الاسلامية الراديكالية و إنما يترك لهم الحبل علي الغارب
يتشتت جهد المنتفضين في مناقشات بيزنطية عن الفرخة اولا ام البيضة و تضيع فرصة ان تخطو مصر نحو مستقبل عصرى جديد.(( نكمل حديثنا باكر )) .