عادل نعمان
.. ويتساءل أنصار قضية «خلق القرآن»: إذا كان القرآن مكتملًا وتامًا قبل الخلق، فلماذا لم ينزل القرآن كما هو كاملًا تامًا دفعة واحدة على النبى «ص»، وكانت قدرة الله تجيز للنبى الأُمىّ حفظه وتلاوته وليس هذا على الله بعزيز؟ وأيضا لما كان القرآن محروسًا فى اللوح المحفوظ كما جاء فى الآية «الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير»، وكأن هذا قبل أن يخلق الله الجبال والسماوات والأرض، والبحار والأنهار والكائنات والبشر من ملايين السنين، وكتب الله فى «أم الكتاب» جميع حوادث العالم، العلوى والسفلى، وأحوال جميع الخلق، شره وخيره ومولوده وولده وفى أى أرض يحيا وأى أرض يموت إلى أن تقوم الساعة، فلماذا يبدل الله آية مكان أخرى، والقرآن َمحفوظ ومتقن ومضبوط ومحكم وفى حوزته؟.. وهذا ما جاء فى الآية المكية «وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفترٍ بل أكثرهم لا يعملون»، ولماذا لا يأتى الله بآيات الخير مرة واحدة دون الحاجة إلى نسخ آية مكان أخرى، والقرآن فى حفظه يغيره كيفما يشاء قبل تنزيله، كما جاء فى هذه الآية المدنية «ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شىء قدير».
والناسخ والمنسوخ برهان على علاقة النص بالزمان والمكان الذى نزل فيه، ودليل على حتمية العلاقة بينهما، وارتباطه بالواقع الذى يحياه الناس، وأن إلغاء النص بنص آخر، سواء رُفع النص المنسوخ من التلاوة أو ظل موجودا يتلى مع إبطال حكمه، معناه ببساطة أن نصا نزل لواقعة معينة ذاتها فى وقت النبوة وعلى حياة النبى، ثم نسخ وألغى لتغير ما فى الواقعة ذاتها وظروفها ومعطياتها، وأيضا فى وقت النبوة وعلى حياة النبى أيضا.
وإلغاء أو نسخ النص بنص هو متغير زمانى ومكانى على ما يراه أصحاب الرأى: يرى كثير منهم أن الإسلام كان على مرحلتين: الأولى المرحلة المكية «مرحلة الاستضعاف»، وما كان مسموحا فيها إلا بخطاب التسامح والعفو والصفح، وكانت آياته تدل على ذلك كما نزلت «من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها»، والآية «ومن كفر فلا يحزنك كفره»، والآية «ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم» والآية «ليس عليك هداهم ولكن الله يهدى من يشاء» والآية «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» والآية «لست عليهم بمسيطر».. وغيرها كثير من آيات الصفح والموادعة.
الثانية المرحلة المدنية «مرحلة الاستقواء» بعد الهجرة واستقرار الأحوال والاستقواء بالأنصار تغيرت اللهجة وصارت أكثر جرأة، وتحض على قتال المشركين، فكانت الآية «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله» والآية «واقتلوهم حيث ثقفتموهم» والآية «فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق»، والآية «فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم»، والآية «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله»، والآية «فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم»، وهذه «آية السيف» التى قال عنها بن كثير (إنها نسخت كل عهد بين النبى «ص» وبين المشركين).
وهذا متغير آخر وهو تغيير القبلة، «وما جعلنا القبلة التى كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه»، فإن الله قد أمر النبى صلى الله عليه وسام بأن يصلى فى اتجاه القدس خمسة عشر عاما، ثم أمره بتغيير القبلة إلى المسجد الحرام، «قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره».. وكذلك متغير آخر وهو تدرج التشريع، كالتدرج فى تحريم الخمر وبعض الأطعمة.. وهذا متغير آخر وليس الأخير، وهو نسخ التخيير فى الصوم إلى الإلزام على من رأى الشهر دون عذر شرعى.
الناسخ والمنسوخ كله تعامل مع الواقع فى الزمان والمكان والأحداث، إلا أن الأهم فى الأمر كله هل هذا النسخ فى حياة الناس قد توقف بموت النبى، أم أنه طبيعة حياة متجددة ومتغيرة تقبل يوما وترفض آخر؟، وكذلك الأحكام تصلح فى زمن ولا تصلح فى آخر، ويستجيب لها الناس فى مكان ويرفضونه فى مكان آخر، وهذا هو جوهر القضية ومكمن الخلاف بين زمنية النص وأبديته، بين خلق القرآن وغير مخلوق، وهو موضوعنا المهم.. الأهم فى هذا الأمر أن الناسخ والمنسوخ لا يحدده ترتيب الآيات فى القرآن، فليس ترتيب الآيات حسب ترتيب النزول، فربما آية ناسخة يكون ترتيبها فى المصحف قبل الآية المنسوخة، «والمفروض العكس» كالآية 234 من سورة البقرة «والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا» قد نسخت الآية التى جاءت بعدها 240 نفس السورة «والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج»، فقد نسخت مدة التربص «العدة» من عام فى الجاهلية إلى أربعة أشهر وعشرة فى الإسلام، وهذا ما أشار إليه السيوطى فى كتابه «الإتقان فى علوم القرآن» لما سأل محمد بن سيرين، عكرمة: لماذا لم يؤلف الصحابة القرآن كما أنزل الأول فالأول؟، فكان جوابه: «لو اجتمعت الإنس والجن على أن يؤلفوه هذا التأليف ما استطاعوا».
وهذا يدعونا إلى معرفة أسباب النزول، وتتابع التنزيل بدقة حتى نصل معا إلى حكمة الذين ينادون بـ«خلق القرآن ».. إلى القادم إن كان لنا نصيب.
نقلا عن المصرى اليوم